داحس والغبراء

 

تحديد مواقع داحس والغبراء في الشمال الغربي من القصيم وهناك إحداثيات لتلك الأماكن

د. عبدالعزيز الفيصل

 

اتحقيق الآثار والأماكن الواردة في المعلقات والشعر الجاهلي والإسلامي يعتمد على ثلاثة أمور: الأمر الأول أن الشعر يفسر بعضه بعضًا. الأمر الثاني الاستدلال بالمعاجم القديمة. الأمر الثالث المعرفة الشخصية والرغبة. ففيما يتعلَّق بالأمر الأول أن المكان (جبل، وادٍ، رمل، بلدة) يذكره أكثر من شاعر، فهذا يقرنه بما يجاوره، وذاك يقرنه بقبيلة أو بلدة، وآخر يذكره مع غيره من أماكن قبيلة معيّنة فيتعيّن المكان إذا كان الباحث ملمًا بمساكن القبائل العربية، ومطلعًا على سير الشعراء وبلدانهم وتنقلاتهم، ومطلعًا على تاريخ الحروب وأين وقعت، وكيف امتدت إلى أماكن أخرى. فمعرفة مساكن القبائل القديمة يساعد كثيرًا على تحديد المكان وبالتالي يساعد على فهم الشعر.
من أهم معاجم البلدان (معجم ما استعجم) و(معجم البلدان) وغيرهما من معاجم البلدان. وفي معاجم اللغة كثير من الفوائد التي ترشد إلى تحديد المكان، بالإضافة إلى كتب التاريخ وكتب الأدب عامة. فالثقافة التاريخية والبلدانية والأدبية كل لا يتجزأ في الاسترشاد بها في معرفة الأماكن وتحديدها، والرافد الثالث المعرفة الشخصية والرغبة. وهذه المعرفة منوطة بالتنقّل في الجزيرة العربية والوقوف على جبالها، وأوديتها، ورمالها، ومدنها، وقراها. فالزيارات الميدانية تفتح الطريق للباحث وتنير له السبيل فيستمع من سكان المنطقة إلى نطق ذلك المكان الذي ورد في الشعر القديم، فيساعده النطق، ومشاهدة المكان على الجزم والتحقق من أن الجبل هو نفسه. فعندما قمت برحلة إلى جبل خزاز ووصلت إلى سفح الجبل أحببت الاستئناس بسماع النطق بالكلمة هل تغيّر أم لا؟ فذهبت إلى بلدة دخنة الواقعة بالقرب من الجبل والتقيت عددًا من الرجال أسألهم عن اسم الجبل فيقولون (خزاز) عند ذلك صعدت الجبل حتى وصلت إلى أعلاه أبحث عن مكان النار الموقدة في أعلى الجبل فوجدت صخرة ضخمة مربعة بارتفاع عشرة أذرع فلم أستطع تسلّق الصخرة، وفي ظني أن النار التي أشار إليها عمرو بن كلثوم في قوله:
ونحن غداة أوقد في خزاز
رَفَدْنا فوق رِفْدِ الرَّافدينا
أوقدت فوق تلك الصخرة، وإذا كان اسم المكان لم يتغيّر والقرائن تدل على أنه هو المكان الذي قصده الشاعر تحقق الباحث من أن المكان هو ما ورد في قول الشاعر فإذا قرأنا قول الأعشى:
قالوا نُمَارٌ فبطنُ الخال جَادَهما
فالعَسجَديَّة فالأَبْلاءُ فالرِّجلُ
وجدنا اسم وادي (نمار) لم يتغيَّر وهو واد من روافد وادي حنيفة وقد امتدت إليه مدينة الرياض، وبطن الخال هو وادي لبن، والعسجدية في السلي، والأبلاء مواضع في شمالي الرياض، والرِّجل مواضع قريبة من الأبلاء. وفيما إذا كان قد وقف على معلومات خاطئة في أثناء تحقيقه للشعر الجاهلي يرى الفيصل أن المعلومات الخاطئة لم ينج منها أحد من الباحثين والمؤلفين. فالجاحظ على فضله، وتقدّمه نسب البيتين اللذين ذكرا موقعة الهباءة إلى الراعي النميري، وقد صححت نسبة البيتين إلى عمرو ابن الأسلع العَبْسي فهو الذي اشترك في موقعة الهباءة وقال البيتين، والبيتان هما:
إن السماء وإن الريح شاهدةٌ
والأرض تشهد والأيام والبلدُ
لقد جزيت بني بدر ببغيـــهم
يوم الهَبَاءَة يومًا ما له قــــودُ
والراعي النميري ولد بعد موقعة الهباءة بمئتي سنة، وقد حدّد باحث حديث (تُوضح) الواردة في قول امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللِّوى بين الدَّخُول وحَومل
فتَوُضِحَ فالمِقْرَاة لم يَعْفُ رسمها
لما نسجتها من جــــنوب وشــمأل
حددها بأنها (التوضحية) في شرقي الخرج، فصححت هذا الخطأ بأن (توضح) رمل يقع في الغرب من الدَّخُول في جنوبي نجد ولولا الإطالة لذكرت الكثير.
ومن أبرز الصعوبات التي واجهته في تحقيق الشعر الجاهلي والإسلامي الحصول على المخطوطات، فبعض الشعراء أشعارهم في كتب مخطوطة لم تُطبع بعد، أو أن المطبوع لم يأت بشعر الشاعر كاملاً، فهناك مخطوطة تحوي أشعارًا لم تُنشر فيكتب إلى ليدن أو الأسكريال أو الهند، وينتظر طويلاً حتى تصل إليه المصورات.
وقد وقف ميدانيًا على بعض الأماكن التي ذكرها الشعراء الجاهليون أو الإسلاميون في أشعارهم في بلاد بني قشير (محافظة الأفلاج ومحافظة الحريق ومحافظة القويعية منها: الرين، تبراك، جبل التوباد، عماية، عمق الريب، قرقرى، قساس، المروت، النير). وفي بلاد بني عقيل (وادي الدواسر) وما جاوره منها: البياض، تبالة، تمرة، رنية، القهر، قرية. وفي بلاد عبس منها: أبان، ثادق، الجواء، الحاجر، ذات الإصاد، ذو حُسى، الشَّرْبَّة، ضارج، ضلفع، قَلْهَي، قاع بولان، مَنْعَج، ناظِرة، النقرة، الهباءة، اليعمرية، فضلاً عن أماكن ذكرها شعراء المعلقات منها: أبان، أراط، أوُاَل، برقانطاع، برقة ثهمد، تبالة، تيماء، ثهلان، الجواء، الحاجر، حائل، الحنو، الخال، خزاز، ذو العُشيرة، روض القطا، الشَّربَّة، شرج، ضارج، ضرغد، طمية، عالج، عردة، عين محلم، قطن، كتيفة، كثيب الغينة، اللصافة، مأسل، مُران، مسكة، منى، ناظرة، النباج، نطاع، نمار، وجرة، وغير هذه كثير. والأماكن التي قد يصعب تحديدها هي التي تطلق على أكثر من مكان، والاختلاف في تحديد بعض المواضع موجود عند القدامى والمحدثين.
وقد طلبت مني هيئة السياحة تحديد مواقع حرب داحس والغبراء في الشمال الغربي من القصيم وذهبت إلى تلك الأماكن ووضعت لها إحداثيات، ومنها موقع قبر عنترة، ولدي تحديد دقيق لموقع قبر الأعشى في منفوحة.