ليلة حلم في غرناطة

 

لو أردت أن تعيش حلمًا بهيًا فيه ألق وفرح يخالطهما ألم دفين، ومتعة ساحرة.. لو أردت خيالًا يطوف بك وهو أقرب إلى الحقيقة، وحقيقة تسكنك وهي أقرب إلى الخيال، حتمًا ستجد ذلك في ليل غرناطة الصيفي.

عبير الفوزان

غرناطة عروس الجنوب الإسباني، وأهم مدن الأندلس أو أندلوثيا، كما ينطقها الإسبانيون اليوم. تلك المدينة التي يقال إن سقوطها كان ليلًا، عندما تنازل عنها أبو عبدالله الصغير عام 1492 ليتلقفها فيرناندو بعد سبعة أشهر من الحصار والترقب وكأنها آخر ورقة توت تسقط من شجرة كانت وارفة الظل، هي آخر المدن، وآخر المعاقل، وآخر الأندلس، هي الجمال المتناهي في زمن السقوط وقبله، هي تلك الغصة والشهقة معًا إذا أخذتك خطاك إلى أزقتها التاريخية على تلة البيّازين، أو إذا حالفك الحظ لزيارة قصر الحمراء فتمشي في دهاليزه متحسرًا عليه تارة ومختالاً به تارة أخرى.
بين الأزقة والدهاليز يتماهى التاريخ أمامك في غرناطة، وتستحضر الذاكرة تفاصيل لم تعشها لكنها مخطوطة في القلب العربي المسلم، تتلمسها في الأسماء، وفي خطوط العمارة، وفي النقوش، وأبيات الشعر المحفورة على الجدران، وفي بعض مفردات اللهجة الجنوبية الإسبانية، ما يجعلك لا تشعر بغربة المدينة الأوروبية في غرناطة ولا غربة للروح فيها، حتى لو استعجمت المسميات لتصبح غرانادا بدلاً من غرناطة، وأندلوثيا بدلاً من الأندلس، والهمبرا بدلاً من الحمراء، لأن الأصل منها هو الذي سكن وجدانك.

ليل تلة البيّازين
عندما تزور غرناطة صباحًا فأنت موعود بقصر الحمراء وجنة العريف. أما إذا كنت قد بدأت زيارتها ليلاً فلا بد لك من الولوج إلى عوالم تلة البيّازين، الحي الأندلسي الذي كان سكنى للنخبة في العصر الذهبي للأندلس. من مفارقات تلك التلة أنها بائسة بأزقتها الضيقة التي لا يحتمل معظمها مرور سيارة، لكن السحر والجمال والتاريخ تكتنفها، لذا باتت مقصدًا للسياح، فاحتوت على حوانيت تبيع ما يغري السياح الأجانب قبل العرب، كما أن بيوتها الأجمل والأكبر قد استثمرت لتكون فنادق صغيرة وفاخرة ومطاعم مثيرة للمذاق.
في ليل غرناطة البهي وعلى تلة البيازين، أو في أزقة حي البيازين، يتجلى الليل بصورته البهية، فأنت موعود بالتاريخ والجمال والبحث عن أصل التسمية لهذه التلة التي ربما استغنيت في رحلتك عبر أزقتها عن وسائل النقل مثل سيارات الأجرة أو الحافلات الصغيرة، مفضلاً التنقل على قدميك بين دروبها الضيقة. لكن احذر أزقتها المرصوفة بحجارة غدا بعضها زلقًا بفعل التقادم. ستعتليها راجلاً وستنقلك خطاك من زقاق ضيق إلى آخر أضيق منه، ستمضي صعودًا، ثم تقفل هبوطًا، عندما ترتفع ستعرف لماذا سميت هذه التلة بـتلة البيازين. على تلتها كان مربو الصقور أو طيور الباز يجدونها مكانًا ملائمًا لإطلاق طيورهم، ولما تتميز به التلة من ارتفاع وإحاطة نهر شنيل بأسفلها أصبحت مكانًا لسكنى الحرفيين والصناع منذ عام 1013، ثم تطور هذا الحي وازدهر في عهد بني نصر ليكون مكانًا لنخبة الأندلسيين، إلى أن تم إجلاء المسلمين منه بعد أن سقطت غرناطة. إن كنت محظوظًا فسيكون خيارك للسكنى في إحدى الفنادق الصغيرة ذات الخمسة نجوم والمنتشرة في الحي، وذلك بعد تحويل البيوت العربية الأندلسية إلى فنادق يقصدها زائرو غرناطة. عادة لا يتجاوز عدد الغرف في مثل ذلك النوع من الفنادق 30 غرفة. ستحظى فيها، لا ريب، بسكن قلَّ نظيره في أي بلد أوروبي، حيث ستشعر أنك في بيتك، أو في الحي القديم الذي نشأت فيه، حتى لو كنت تسكن قارة أخرى بعيدة. ربما من حسن الحظ أو سوئه أن إسبانيا، اليوم، تعيش كسادًا اقتصاديًا، والجنوب بأكمله يعاني هذه المعضلة. لذا لا تستغرب عندما تجد فندقًا جميلاً ورخيصًا، أو وجبة طعام فاخرة بسعر يسير مقارنة بالمدن الأوروبية الأخرى.
تلة البيازين متاحة لك ليلاً ونهارًا للتجوال في أزقتها، والصعود إلى أن تصل إلى قمتها، وعلى القمة لا تفوت تأدية أحد فروض الصلاة في المسجد الجامع والوحيد في غرناطة والذي افتتح عام 2003، فبعد 600 عام رُفع الأذان من ذلك المكان. جميل أن تصلي في الأندلس آخر معاقل المسلمين في زمن الفتوحات. بعد خروجك من جامع غرناطة سيدهشك المنظر الذي سيقابلك مباشرة، فعلى الضفة الأخرى من النهر يتربع قصر الحمراء. بعدها لك الخيار في المرور على حوانيت السياح أو بعض البقالات الصغيرة المنزوية التي تخدم أهالي حي البيازين، سيفرح بك من يبيعون في تلك البقالات عندما تبادرهم بتحية «السلام عليكم»، سيبتهجون وهم يتحدثون معك بالعربية وكأن التلة قد عاد إليها من كان يسكنها.

وجبة عشاء حالمة
على الرغم من أن درجة الحرارة ليلاً في صيف غرناطة تتجاوز الخامسة والثلاثين، أحيانًا، إلا أن ليلها ساحر بامتياز، فهي مدينة تختلف عن كل المدن التي ربما كنت قد زرتها من قبل، إذ لا تشبه إلا نفسها. ففي ليلها كان السقوط، وفي ليلها البائس الآفل ذكرى حزينة، أما في ليلها اليوم حكايات عشق لا تنتهي.
من فوق تلة البيازين، ومن مطعم نجوم سانت نيكولاس، وهو أفضل مطعم على هذه التلة حيث يقدم أطباقًا لذيذة عالمية ومن ضمنها طبق الكسكسي المغربي الذي ستجزم عند تذوقه أن الطاهي برع في طهيه إكرامًا لعرب البيازين الذين تم إجلاء معظهم منذ 600 عام وقدورهم ما زالت على المواقد- من فوق تلك التلة، سيتراءى لك من نافذته قصر الحمراء الذي يتمدد بلونه المحمر صباحًا، وبالإضاءة الصفراء حوله ليلاً، بينما شجرة ورد الجهنمية تسلقت على جدران هذا المطعم العلوي لتطل عليك من النافذة وكأنها تلقي عليك تحية المساء الغرناطي. تتهادى إليك من خلال النافذة قصص التاريخ وفتوحات الأندلس يخالطها صوت السياح الذين قدموا لمشاهدة ما شيده العرب الأوائل على أرض غرناطة. في ليل غرناطة المتماهي مع صوت عزف وتري وطبق مغربي وورد يصارع الصيف، لك أن تبحر في المشهد الليلي الذي لن تنساه ما حييت عبر تلك النافذة الكبيرة التي يتطفل حولها الورد. لكن يبقى قصر الحمراء هو سيد المشهد، ذلك القصر الذي تعد نفسك صباحًا بزيارته.

قصر الحمراء لا ينام فيه أحد
يبدأ إغلاق بوابات قصر الحمراء قبل السادسة مساءً بحرص شديد لأنه الإرث الأهم، ومقبرة المجد التليد. عزاؤنا أن هذا القصر المنيف يغلق ليلاً ولا ينام فيه أحد، يغلق على الأسرار والحزن والشغف، وعلى التاريخ والمجد العريق، وعلى خطوات أبي عبدالله الصغير القلقة قبل ليلة السقوط. وعزاؤنا أن تلة البيازين يسكنها اليوم كثير من المهاجرين المغاربة بعد إجلاء أجدادهم من الموريسكيين كما كان يسمى مسلمو الأندلس باللغة القشتالية. إن هذا الإرث اليوم مسجل ضمن مواقع التراث العالمي في منظمة اليونيسكو. كأن هذين المكانين، الحمراء بجنة العريف وتلة البيازين، ليسا ملكًا لأحد، بل هو حق مشاع مقابل الزيارة. لك الحق أن تتبختر مزهوًا في دهاليز قصر الحمراء، وتلتقط ما شئت من الصور مقابل تذكرة لا تتعدى 25 يورو. كل ما عليك هو أن تقوم بحجز دخولك إلى هذا القصر مسبقًا، وذلك من خلال موقع القصر على الإنترنت، ثم تحصل على التذكرة من خلال أجهزة الصرف البنكية الموجودة في جميع أنحاء إسبانيا، كي لا تضطر إلى أن تقف في طابور طويل تحت أشعة الشمس الحارقة إن كانت زيارتك صيفًا. يجب عليك أن تحضر قبل فتح بوابة قصر الحمراء بنصف ساعة لتصطف مع سياح قدموا من أقاصي الأرض لمشاهدة ذلك الإرث، ستكون الساعات الست قليلة لتلم بكل مرافق القصر، لذا كن أول القادمين وآخر الخارجين. حبذا لو اشتملت تذكرتك على تصريح الدخول إلى جنة العريف، ذلك القصر الذي بني عام 1319 ويبعد أكثر من ألف خطوة عن قصر الحمراء. لقد كان ملوك غرناطة يتخذونه استراحة ومكانًا للتنزه. في حدائق الجنة ستدهشك النوافير الباردة في الصيف، وأشجار البرتقال والورد. وربما أسرفت في الحلم، وأنت في الحلم، وحلمت بحديقة مثل جنة العريف، وبيت مثل قصر الحمراء. قبل أن تودّع القصر ربما يستوقفك بيت شعر محفور على لوح جبسي في أحد جدران قصر الحمراء مكتوب فيه: بيت له حسن الثريا سعده ... ستترقق من عينك دمعة للحسن وعلى الثريا، وعلى ذاك الذي أضاع ملكًا وبكى. ستظل غرناطة بقصرها وتلتها وجنتها محفورة في قلبك وذاكرتك للأبد.. ربما تكرر المشهد والزيارة وتعاود الحلم مرتين.