يتمتع الأطفال بقدرة كبيرة على ألا يثبط الفشل عزيمتهم، وينظرون إلى الأمور من منظور مختلف ينمي حس الإبداع لديهم.
د. ويندي موجل
Dr. Wendy Mogel
لعل إقدام طفل على تحديد مساره الخاص هو الميزة الحاسمة في القرن الحادي والعشرين. ففي حياة يحكم إيقاعها التغيّر السريع، والمنافسة الشرسة في مجال التوظيف، يجزم الخبراء بأن القدرة على التفكير الإبداعي وتحقيق الأهداف الشخصية بشجاعة هما مهارتان ضروريتان للنجاح في المستقبل.
في مختلف الأحوال، لا يقتصر المفهوم المعاصر للإبداع على الخيال الواسع والقدرة على التعبير ولا على الجانب الفني، بل يشمل تشغيل العقل، والتخطيط، والتحكم بالنفس، والقدرة على إنتاج شيء فريد من نوعه ومفيد في الوقت نفسه. وبما أن كثيرًا من أطفال اليوم سيكبرون ليشغلوا وظائف لم تخترع بعد، فمن الضروري للغاية أن يكونوا قادرين على إيجاد حلول مبتكرة للتحديات التي تتغيّر دائمًا. ففي إحصاء أجرته شركة IBM وشمل 1,500 رئيس مجلس إدارة، تبيّن أن الإبداع يُعد الميزة التي يوليها المديرون الأهمية القصوى. كما أظهر بحث أجراه د.جوناثان بلاكر Jonathan Plucker، أستاذ علم النفس التربوي في كلية نيغ للتربية التابعة لجامعة كونيكتيكت the University of Connecticut’s Neag School of Education، أظهر أن اختبارات الإبداع التي كان التلاميذ في المدارس الابتدائية في الخمسينيات من القرن الماضي يخضعون لها كانت أفضل من امتحانات تقييم مستوى الذكاء بثلاثة أضعاف لجهة توقّع الإنجازات التي يحققها الطلاب بعد أكثر من 30 عامًا. فالتحلي بمنظور إبداعي إلى الأمور يعني أنّ الطفل قد يكبر ليصمّم في المستقبل برمجيات ثورية جديدة، أو ليكتشف علاجًا للسرطان، أو ليعالج خلافًا عالميًا شائكًا، أو ليؤسس شركة إبداعية لا تتوخى الربح.
وقد يكون من المفيد أن نعلم أن ثمة مقاربتين عامتين لحل المشكلات: التفكير التقاربي والتفكير التباعدي. فالتفكير التقاربي يوظّف المعلومات المكتسبة مسبقًا إلى جانب المنطق لاختيار الحل المناسب، علمًا بأنّ هذا النمط من التفكير هو الذي تقيسه معظم اختبارات الأسئلة المتعددة الخيارات. فإذا ضربنا ثمانية في سبعة، فسنحصل على 56 في كل مرة.
أما التفكير التباعدي، فيوظّف الحقائق والتجربة لإنتاج أفكار جديدة. فبعد التفكير العميق، وبفضل الاختبار الحر، يحكم على الحلول بحسب حجمها، وتنشأ روابط غير متوقعة بين الأفكار. هذا هو التفكير الذي يتمتّع به المبدعون، وهو نمط التفكير الذي يحاول الباحثون من أمثال د.بلاكر تقييمه في اختبارات كمّية تقيس الإبداع. فالباحثون يطرحون على سبيل المثال السؤال التالي: كم وجهة استخدام لمشبك الأوراق يمكنك أن تقترح؟
لحسن الحظ، يتمتّع الأطفال بقدرة هائلة على الإبداع. فقد يكونون فلاسفة، وعلماء فيزياء، وفقهاء، وفنانين تشكيليين، ومقاولين، حتى شعراء بالفطرة. ولكن للأسف، تتدخل عوامل كثيرة تصعّب على الأطفال اتباع غرائزهم الإبداعية، ومنها الأطر المحدّدة للفنون، والتركيز على الاختبارات المعتمدة، وخوف الأهل من إطلاق العنان لأطفالهم حتى يقوموا بالاكتشافات بأنفسهم. لذا علينا أن نعطيهم بعض الحرية ليكتشفوا طريقهم ويتسلّموا دفة القيادة.
حسه الإبداعي
تستطيعين أن تساعدي طفلك على تنمية حسّه الإبداعي حين لا تتدخلين. وكما قال أحد المربين الحكماء: «عاملي طفلك كبذرة أتت في كيس لا يحمل ملصقًا. فأنت لا تعرفين على أي زهرة ستحصلين وفي أي موسم ستنمو براعمها. أما عملك، فيتلخص في إزالة الأعشاب الضارة الأساسية، وتأمين الكمية الكافية من الماء والغذاء. وبعد ذلك، عليك التنحّي جانبًا والانتظار».
بالطبع حين ترين الأهالي الآخرين يسارعون إلى تسجيل أطفالهم في صفوف التدريب الرياضي الخاص، وغيرها من الصفوف، قد يبدو لك وقوفك موقف المتفرّج بمنزلة إهمال لطفلك، وقد تشعرين بأنك تسبحين عكس التيار في ظل تهافت الأهالي على تحضير أطفالهم لما يشبه السباق العالمي. ولكنّ ثقافتنا التي تركّز على إظهار مواهب أطفالنا، من شأنها أن تثبط عزيمتهم وتزرع فيهم بذور التمرّد. فالطفل الذي يشعر بأن عليه أن يضيف مواهبه إلى ملف العائلة، قد يمتنع عن إظهار هذه المواهب. بالنسبة إلى الأهالي الذين يحبون أطفالهم، قد يكون من الطبيعي التعبير عن الإعجاب بكل ما يقوم به الطفل، ولكن التعبير عن الانبهار بكل حركة مبدعة يقوم بها طفلك قد يزرع في نفسه بذور الشك عوضًا عن أن يدفعه إلى الشعور بالفخر. بل إنه سيحدّث نفسه قائلاً: «أمي تظن أنني فنان بارع، لذا يستحسن بي ألا أرسم شيئًا يخيّب ظنها». عليك إذًا أن تقفي موقف المتفرّج اللطيف. اكتفي بالثناء على جهود طفلك وتثمين متعته الحقيقية في العمل، وتحدّثي معه عن الأسلوب الذي اتبعه وليس عن النتيجة النهائية.
حالة الاستغراق
غالبًا ما يبدو انتباه الأطفال موجزًا، إلا أنهم يستطيعون أن يستغرقوا في العمل. والواقع هو أن د.ميهالي سيكزينتميهالي Mihaly Csikszentmihalyi، اختصاصي علم النفس ومؤسس مركز لايف للأبحاث Life Research Center في جامعة كلارمونت للدراسات العليا Claremont Graduate University في كاليفورنيا، كرّس مسيرته المهنية لدراسة عنوانها العريض: كيف ينبع الإبداع مما يُسمّى حالة الاستغراق، وهي الحالة التي تطرأ عندما تنغمس في تحدٍّ ماتع لدرجة أنك لا تشعر بمرور الوقت.
أحسني الاختيار
من الطبيعي أن يسعى الأطفال الصغار للاكتشاف في اتجاهات مختلفة، لكن علينا أن نجهد لنلهمهم الصبر والالتزام. فالأبحاث حول العوامل التي تساعد الأطفال على تحقيق إنجازات كبيرة تبيّن أن الإصرار، أو بمعنى أدق القدرة على المثابرة لتحقيق هدف واحد مهما بلغ من الصعوبة، يتصدّر قائمة هذه العوامل، لذا تقارن د.أنجيلا دوكوورث Angela Duckworth، أستاذة مادة علم النفس في جامعة بنسلفانيا، هؤلاء الأطفال بالسلحفاة التي تسبق الأرنب في السباق، إذ لا يُحبط الفشل عزيمتهم، ولا تشتت انتباههم اهتمامات جديدة.
ولكن كيف تساعدين طفلك ليتحلى بالإصرار الإبداعي؟ حين يكون طفلك منهمكًا في نشاط يستهويه، فإنّه على الأرجح سيواظب على الالتزام بهذا النشاط. أما عملك، فيتلخص في ملاحظة مواهبه واهتماماته الفريدة واحترامها، حتى وإن كانت مواهب لا تسترعي عادة اهتمام معلّميه ومدربيه. حاولي بعد ذلك أن توفري له الأدوات، أو المواد، أو الفرص التي تساعده على صقل موهبته مهما كانت هذه الموهبة. فالأطفال يحتاجون إلى تنمية مهاراتهم في مجالات الفن، والعلوم، والأشغال اليدوية، والبرمجة الإلكترونية، والكتابة حتى يبرهنوا عن إبداع حقيقي. ويأتي ذلك بعد الكثير من الوقت، والممارسة، وأحيانًا الكثير من الدموع. لتشجيع المثابرة، تستطيعين على سبيل المثال أن تستحدثي ركنًا خاصًا في منزلك للمشاريع المتواصلة، على غرار بناء المدن المركبة، والجداريات، وتركيب الآلات، وتجارب التعامل مع النباتات. هكذا سيجد أطفالك فسحة للعمل بحرية.
ركّزي على أهمية اللعب
لا شك في أن تركيز الأطفال الصغار ينبغي أن ينصب على اللعب وليس على العمل. ومن شأن اللعب الإبداعي، سواء أكان بناء سفينة فضائية أم تمثيل دور مخلوقات فضائية مع مجموعة من الأصدقاء، أن يعلّم طفلك تصوّر سيناريوهات في ذهنه وتوقع أن تثمر جهوده بشكل يسعد الآخرين. وهنا نقتبس مقولة من كتاب Creative Intelligence (الذكاء الإبداعي) للكاتب بروس نوسبوم Bruce Nussbaum، أستاذ مادة الابتكار والتصميم في مدرسة بارسون للتصميم Parsons School of Design في نيويورك: «في إطار اللعب، يقوم الأشخاص بمجازفات لا يقومون بها عادة. فهم عندئذٍ لا يرون في الفشل إخفاقًا ساحقًا، بل يرون فيه فكرة جربوها ولم تنجح. ومن ثمَّ، يحوّل اللعب المشاكل إلى تحديات، ويقلب الجدّ مرحًا، فيصبح الجواب الصحيح مجرد رقم ضمن النتائج المعقولة».
فالأطفال الصغار الذين يحظون بأهل يشجّعون اللعب، يحتفظون بهذه الميزة الطفولية حين يكبرون. فمع مرور السنوات، من السهل أن نولي اهتمامًا أكبر للأداء والدرجات الدراسية ويمكن معرفة مغبة ذلك من النتائج العكسية التي خلّفها مثل هذا السلوك لدى طلاب الجامعات المتوترين اليوم. فهم يخشون تقديم عمل غير مثالي ولا يتمتعون بحس المبادرة، ولا الحزم في اتخاذ القرارات، وينفرون من مواجهة التحديات. هم يعملون ضمن أطر محدودة ولا يفكرون بمرونة، لذا لا يأتون بأفكار وحلول جديدة، أي أنهم باختصار لا يملكون الرؤية الإبداعية. فهم كانوا يحتاجون إلى اللعب والقيام بالأمور على طريقة الأطفال الصغار حتى يسترخوا ويفكروا بأسلوب إبداعي.
.
|