عملات إغريقية من موقع
«العيون» الأثري
المسكوكات المكتشفة في محافظة الأفلاج تعود للإسكندر المقدوني من فئة الأربع دراخمات.
د. عبدالله بن سعود السعود
مدير عام المتحف الوطني
كشفت الحفائر التي تم إجراؤها في موقع العيون الأثري بمحافظة الأفلاج عام 1988 عن مجموعة مسكوكات إغريقية وجدت ملتصقة بعضها ببعض على شكل كنز صغير مدفونة في كوة صغيرة داخل جدار أحد المباني التي تم الكشف عنها بالموقع الأثري، وكان عددها ثلاث عشرة عملة سكّت من الفضة وبحالة جيدة.
يبعد موقع العيون الأثري حوالي 18 كيلو مترًا إلى الجنوب الغربي من مدينة ليلى على الطريق المؤدي إلى قرية سويدان في المنطقة المحيطة بأكبر عيون المياه الموجودة بالأفلاج والمسماة بعين الرأس أو أم الجبل كما يطلق عليها محليًا (وقد جفت مؤخرًا معظم العيون في الأفلاج بما فيها هذه العين). وهو عبارة عن تلال أثرية تتخللها شبكة من قنوات الري التي بنيت بدقة وإتقان كبيرين على مساحة تغطي كيلومترًا مربعًا تقريبًا.
العملات المكتشفة هي عملات الإسكندر المقدوني من فئة الأربع دراخمات اليونانية، حيث يظهر على الوجه صورة رأس هراكليس متجه يمينًا عليه رداء الرأس من شعر لبة الأسد والمخلب الأمامي له معقود حول رقبته. وفي الظهر نرى «زيوس» جالسًا على العرش متجهًا يسارًا وممسكًا الصولجان بيده اليسرى، ويده اليمنى ممتدة يقف عليها نسر ويظهر اسم الإسكندر مكتوبًا على سبع من تلك العملات خلف زيوس، وتوجد بعض الرموز أسفل العرش.
يتراوح وزن هذه العملات كل على حدة من 16 جرامًا إلى 17.2 جرام. وهذا يعطي انطباعًا بأن هذه العملات قد سكّت حسب النظام أو القانون الأتيكي لسك العملة اليونانية (مقداره 17.4 جرام. وقد استخدم هذا النظام في أثينا في القرن الرابع قبل الميلاد).

الإغريق وعرب الجزيرة
بدأ الاتصال بين الإغريق وعرب الجزيرة العربية في عام 323 ق.م. العام الذي توفي فيه الإسكندر المقدوني. فعند عودته من حملته العسكرية على الهند متجهًا إلى بابل أراد الإسكندر القيام بحملة بحرية للسيطرة على الجزيرة العربية، حيث كان من المعلوم لديه أن محاولة اختراق الجزيرة عن طريق البر يعني اختراق بحار من الرمال قد يكون فيها هلاك جيشه, لذا بدأ في الإعداد لحملة بحرية يقودها بنفسه للسيطرة على مراكز الثراء، وتجارة المر والبخور، والتي قد سمع بها من التجار الذين كانوا يأتون إلى غزة على ساحل البحر الأبيض المتوسط في فلسطين بعد سيطرة الإسكندر عليها. إلا أن مرض الإسكندر ومن ثم وفاته في العام نفسه كان سببًا في إلغاء هذا المشروع، خصوصًا أن خلفاءه من قواده قد انشغلوا في تقاسم الإمبراطورية التي خلفها الإسكندر بعد وفاته.
يبدو أن النواحي الاقتصادية والتجارية هي العامل الرئيس لسياسة السلوقيين وعلاقاتهم بالشعوب الواقعة على الساحل الغربي للخليج العربي ولم يكن الحلم الاستعماري للإسكندر هو الأولوية لديهم، وإنما كان اهتمامهم منصبًا على تأمين طرق التجارة البحرية القادمة من الهند إلى الجزيرة والعراق، واستمر ذلك إلى عام 205 ق.م. عندما قرر أنتيوخوس الثاني سابع الملوك السلوقيين غزو الجرهاء على الساحل العربي من الخليج، ولكنه بدلاً عن ذلك وافق على إتاوة مالية يدفعها الجرهائيون في مقابل إعطائهم الحرية في التجارة في الخليج دون مزاحمة من التجار الإغريق. بلغت تجارة القوافل في الجزيرة العربية أوجّها عند منتصف الألف الأول قبل الميلاد. وتكونت نتيجة لذلك شبكة واسعة من الطرق المؤدية إلى المراكز الحضارية في العالم القديم، ونشأ العديد من المدن على هذه الطرق نتيجة للضرائب التي كانت تؤخذ من قبل القبائل التي تمر بها القوافل مقابل حمايتها في أثناء عبورها لمناطق نفوذ تلك القبائل. ولعل أهم طريقين رئيسين هما طريق مأرب– نجران في جنوب الجزيرة وصولاً إلى غزه على البحر الأبيض المتوسط، وطريق مأرب– نجران وصولاً إلى الجرهاء على ساحل الخليج العربي.
طريق مأرب- نجران-غزة
اعتمدت مسارات القوافل التجارية خلال مسيرها من مناطق الإنتاج إلى الأسواق الواقعة على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، وبشكل كبير على العلاقات السياسية والتجارية مع المناطق التي تعبرها، بجانب الطبيعة الجغرافية التي لا تقل أهمية عن العلاقات السياسية من حيث اختيار الممرات ذات الطبيعة الجغرافية السهلة، وتجنب المناطق الوعرة. فقد كان على القوافل تجنب المناطق الجبلية قدر المستطاع، وفي الوقت نفسه إيجاد مصادر مائية وغذائية تكفي حاجة الرجال والدواب.
ينطلق الطريق من مناطق داخل اليمن وصولاً إلى مأرب ومن ثم إلى براقش ثم إلى نجران ومن نجران يتجه الطريق عبر المناطق الصحراوية الواقعة إلى الشرق من جبال السروات عبر تبالة ثم تربة، ومنها يتفرع طريق إلى مكة ومن تربة إلى يثرب (المدينة المنورة) مرورًا بالعلا والحجر (مدائن صالح) حتى يصل إلى قرية ومنها إلى البتراء ثم غزة على ساحل البحر الأبيض المتوسط.
طريق مأرب- نجران- الجرهاء
هذا الطريق هو الواصل بين مناطق إنتاج المر واللبان والبخور في جنوب الجزيرة والجرهاء على ساحل الخليج العربي. وقد أشار المؤرخ اليوناني سترابو إلى أن الجرهائيين كانوا يقطعون المسافة بين الجرهاء وحضرموت في أربعين يومًا ولم يذكر مسار الطريق. ولكن بالنظر إلى الطريق القادم من مأرب إلى نجران ثم إلى الجرهاء نجد أن هناك سلسلة من مصادر المياه الطبيعية تقع على هذا الطريق بحيث لا يمكن أن يحيد عنها جنوبًا أو شمالاً، حيث توجد مناطق صحراوية غاية في الصعوبة ولا تتوافر بها مصادر مياه تفي بحاجة القوافل العابرة لهذه الطرق. وعليه فإن المسار الطبيعي لا بد أن يكون من نجران إلى بير حما ثم قرية الفاو مرورًا بوادي الدواسر ثم السليل ثم الأفلاج إلى الخرج حتى يصل إلى الجرهاء التي لم يحدد المؤرخون والآثاريون موقعها على الخليج حتى الآن. ولكنّ هناك اعتقادًا بأن يكون موقع ثاج في وادي المياه هو الموقع المنشود. لم تشر الدلائل التاريخية إلى وجود يوناني مباشر في أي جزء من أجزاء الجزيرة العربية الداخلية وإنما كان على السواحل، وقد حصل في فترة متأخرة من القرن الثالث قبل الميلاد إلا أن وقوع الأفلاج على الطريق التجاري الممتد ما بين اليمن جنوبًا وشرق الجزيرة وشمالها مرورًا بنجران والفاو والأفلاج يرجح قيام علاقات تجارية بين مناطق النفوذ المباشر لليونانيين في بابل بالعراق في أواخر أيام الإسكندر المقدوني وما بعدها بقليل قبل قيام الممالك الهللينستية في الشرق، خصوصًا السلوقيين، وبين مدن التجارة في الجزيرة العربية. ونستطيع هنا عدّ وجود هذه العملات من فئة الأربع دراخمات الدليل الأقوى على وجود هذه العلاقات التجارية.