التأليف بين المسلم وأخيه من أهم ما حضَّ الإسلام على تحقيقه, ووجَّه إلى تقويته وترسيخه، ودعا إلى التحلي به وظهوره بين أفراد المجتمع، وصقل النفوس حتى تصطبغ به حياتها، ليتولد الشعور الصادق بين أبناء الأمة، وتسود العواطف النبيلة في تعاملهم.
أ.د. عبدالكريم بن صنيتان العمري
الجامعة الإسلامية- المدينة المنورة
حذر الإسلام من كل ما يعكر صفو العلاقة، أو يؤثر في وشيجة الترابط القائمة بين المسلم وأخيه، وألزم كلّ واحد منهما أن يقوم بحقه تجاه الآخر، ويؤدي ما عليه من حقوق لأخيه المسلم، ومنها حفظ كل ما يصون تلك الحقوق، ويعمل على ترسيخها واستمرارية تواصلها.
وحفظ المسلم في عرضه من أهم ما ألزم الإسلام به الأفراد، حيث حرّم إيذاء المسلم لأخيه، ونهاه عن الاعتداء على عوراته، أو انتهاك خصوصياته، أو كشف ما اؤتمن عليه من أسراره، أو إعلان ذلك وإظهاره، بعد أن استودعه سرّه, وخصَّه بإخباره عن بعض أمره، إذ ليس من المروءة أن يخونَ أمانته.
إن حفظ السرِّ من أهم ما يجب أن يلتزم به المسلم، حيث أوصى الإسلام بصيانة الأسرار وحرم إفشاءها، وعَدَّ المحافظة عليها من الأمانة، وهو ما تحتمه المروءة وآداب التعامل.
روى جابر، رضي الله عنه: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: «إذا حدَّثَ الرجل بحديث ثم التفت فهي أمانة» رواه أحمد.
والمراد: أن مَن يفضي إلى آخر بحديث بينه وبينه، وفي أثناء كلامه يلتفت المحدث، فكأنه يريد أن يؤكد للمخاطب أنَّ ما يدور بينهما من كلام سرٌّ لا يصح نشره، ولا أن يخبر به، فالمتحدث لا يرغب في أن يسمع هذا الحديث، ولا أن يطلع عليه أحد، وأن هذا المخاطب قد خُصَّ بهذا الكلام، فكأن التفاته في أثناء الحديث قائم مقام قوله (اكتم هذا الكلام)، فهو أمانة عندك.
وقد تربى الصحابة، رضوان الله عليهم، في المدرسة المحمدية على حفظ الأسرار وكتمانها، والبعد عن نشرها أو إفشائها، حيث رباهم النبي، صلى الله عليه وسلم، على ذلك، حفاظًا لحقوق المسلمين، وصيانة للعلاقات الأخوية من أن يؤدّي إفشاء السرّ إلى التأثير فيها بالهجران والتقاطع.
فهذا أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، يكتم سرَّ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويتحمل ما واجهه من عتاب على إخفائه. روى عبدالله بن عمر، رضي الله عنهما، أن عمر، رضي الله عنه، لما مات زوجُ ابنته حفصة، رضي الله عنها، ذهب إلى عثمان، رضي الله عنه، فعرض عليه أن يتزوجها فقال عثمان: سأنظر في أمري، فلبث ليالي، ثم لقي عمر فقال: لقد بدا لي ألا أتزوج يومي هذا. قال عمر، رضي الله عنه، فلقيت أبا بكر الصديق، فقلت: إن شئتَ زوجتُك حفصةَ بنتَ عمر، فصمت ليالي، ثم خطبها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأنكحتُها إياه، فلقيني أبو بكر، فقال: لعلك وجدتَ عليّ حين عرضتَ عليّ حفصة، فلم أرجع إليك شيئًا؟ قال عمر: فقلت: نعم، فقال أبو بكر: إنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت عليّ إلا أني قد علمتُ أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ذكرها، فلم أكن لأفشي سرَّ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولو تركها قَبِلتُها. رواه البخاري. .
وهنا يتضح حرص الصديق، رضي الله عنه، على كتمان سرِّ النبي، صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يَبُح به إلا بعد أن أظهره النبي، صلى الله عليه وسلم، وأصبح الأمر معلومًا عند الناس فارتفع الحرج.
إن حفظَ الأسرار، والحرصَ على عدم إفشائها, من أهم ما يجب أن يلتزم به المسلم تجاه أخيه، محافظة على حقه، ومراعاة للشعور الإنساني، وهو دليل على الوفاء والعناية بحق الأخوة، والبعد عن أي تصرف قد يعكر صفو العلاقة بينهما، كما أن حفظها رعايةٌ وتحمُّلٌ للأمانة. روى ثابت بن أسلم البناني، قال: قال أنس رضي الله عنه: أتى عليّ رسولُ الله، صلى الله عليه وسلم, وأنا ألعب مع الغلمان, فسلم علينا, وبعثني إلى حاجة، فأبطأتُ على أمي، فلمّا جئت، قالت: ما حَبَسَكَ؟ قلت: بعثني رسول الله، صلى الله عليه وسلم, لحاجة، قالت: ما حاجته، قلت: إنها سرّ، قالت: لا تحدثن بسرِّ رسول الله، صلى الله عليه وسلم, أحدًا, قال أنس: والله لو حدثتُ بسر رسول الله أحدًا لحدثتك به. رواه مسلم. وكتمان أنس، رضي الله عنه، سرَّ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، دليل فضله وكمال عقله، ودقة فهمه مع صغر سنه، رضي الله عنه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وقد كان السلف يؤكدون أهمية حفظ السر، ويوصون أبناءهم بذلك، ويحضونهم على وجوب كتمانه، فهذا العباس، رضي الله عنه، يوصي ابنه عبدالله، رضي الله عنه، بعدم نشر السَرّ، فحين اختار الفاروقُ عمرُ، رضي الله عنه، ابنَ عباس ليكون أحد مستشاريه على صغر سنه، وجعله من المقربين إليه، وصى العباس ابنه عبدالله فقال له: إنى أرى هذا الرّجلَ قد اختصك بمجلسه، فاحفظ عني ثلاثًا: لا تفشين سرًا، ولا تغتابَن عنده أحدًا، ولا يجربن عليك كذبًا. ولأهمية حفظ السرّ ذهب بعضُ الفقهاء إلى أن إفشاءه من الكبائر، سعيًا لدوام الألفة, وصيانة لحقوق الإنسان، ويُستثنى من ذلك حالات منها: أن يكون كتمانه مؤديًا إلى مفاسد، أو مضرًا بمصالح الأمة، أو اعتداء على حقوق الإنسان، فيكون في كشفه وإعلانه تحقيقًا للمصلحة العامة، وإنقاذًا للمجتمع من مخاطر تحيط به، وقد رُوِيَ عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «المجالس بالأمانة، إلا ثلاثة مجالس: سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حق».
رواه أبو داود. . .