جازان.. تراث وحياة
ما زالت تقاليد الماضي ماثلة في حفلات الزواج، حيث تحضر الحنة في المناسبات الاجتماعية لترسيخ المحافظة على التراث الشعبي.
محمد عبده يامي
جازان منطقة الجمال والفن والإبداع والطبيعة البكر. تكتسي جبالها خضرة المكان، وتتصافح أوديتها برائحة حقول سهولها لتنثر أريج الفل والكادي والواله والعزان. جازان أصالة المكان اشتهرت بموروثها الشعبي الذي يحاكي طبيعة الأرض وقصة الإنسان وهو شاهد على الثراء الثقافي لهذه المنطقة, وهذا الإرث الممتد أعماقًا والمتجذر سموًا ما زال ممارسًا حتى يومنا هذا في المدن والقرى والبوادي تتوارثه الأجيال جيلاً بعد جيل. يعد «الكادي» سيد النباتات العطرية برائحته الفواحة في جازان، وغالبًا ما يزرع في المناطق الجبلية الخضراء التي تتوافر بها المياه بغزارة. ولا يمكن أن تحلو جلسات السمر والأفراح والهود دون «الكادي». أما الفل، ولا سيما الفل البلدي، وإذا ذكر الفل ذكرت جازان، فهو يبعث البهجة والفرح، ويتميز برائحته الفواحة، وحجمه الكبير، واستخداماته الدائمة، ووجوده المستمر في الأفراح، خصوصًا في مناسبات الزواج. ولذلك فإن أسعار «الفل البلدي» مرتفعة بعض الشيء، خصوصًا في المواسم كالأعياد، والعطلات، والإجازات المدرسية، وإجازات آخر الأسبوع، حيث تزداد حركة الأفراح والزواج. ويستخدم الفل البلدي بطرق مختلفة ولافتة، فيوضع على صدر العروس، كما يوضع على رأسها، وعلى صدر العريس. وله تشكيلات ومسميات ومنها ما يطلق عليه اسم «الكبش» أو «الفعوة» وهو عقد كبير جدًا من الفل البلدي يصل سعره في بعض الأوقات إلى خمس مئة ريال أو ألف ريال. ويتكون من آلاف من حبات الفل البلدي الشهير. ويوضع عادة على صدر العروسة وقريباتها في ليلة الطبعة من ليلة الحناء، وكذا في ليلة الدخلة والشدود. ويلبس الرجال والشباب في الأرياف والمناطق الجبلية بعض الأنواع الجميلة من النباتات العطرية رمزًا للرجولة وتسمى «العصابة» والخطور، وعادة ما يلبسها الشباب ويتحلون بها على رؤوسهم وتزيين شعورهم بها في مناسبات «الهود» والزواج جنبًا إلى جنب مع أزيائهم الشعبية المزخرفة والمزركشة، والتي تتكون من المصنف وهو إزار طويل مزركش يستورد من الهند وبعض دول شرق آسيا، والقميص الملون والذي يسمى باللهجة الشعبية «السميج».
أما «الخطور» وهو اسم لعصابة الرأس من النباتات العطرية فيتكون عادة من الشذاب وهو نبات عطري أخضر فواح. والنرجس- وهو نوع آخر من أنواع الفل برتقالي اللون وتكثر زراعته في المدرجات الجبلية بجبال فيفا وبني مالك وهروب، وفيه شبه من الفل البلدي إلا أنه يتميز بألوانه المتعددة، والتي تتكون من اللون الأصفر، واللون الأحمر، واللون الوردي، ويطلق عليه باللهجة الشعبية «فل عزان». ومن النباتات العطرية الريحان الأخضر, والنعناع والشمطري، أو الحبق الذي يستخدم، أيضًا، مع الشاي ليضفي على كوب الشاي نكهة وطعمًا رائعين أفضل من نكهة النعناع الأخضر المعروف. ولأن عادات الزواج لها ارتباطها فقد مرت بأطوار مختلفة خلال السنوات الأخيرة، إذ تأثرت بروح العصر المتجدد التي اجتاحت المنطقة.. ولكنها لم تذهب بروحه النابضة.. وما زالت روح الماضي مبثوثة في ثنايا مناسبات الزواج وفقراتها. ففي القديم إذا ناسبت البنت أهل العريس ذهب الجاهة إلى أهل البنت وبحثت مواضيع المهر، وحفلة الزواج.. وجرت العادة قديمًا أن تقام الحفلة في بيت الزوج أولاً وتنتقل بعدها إلى بيت العروس على ظهر الجمال محملة بالجهاز المكون عادة من ثلاثين قطعة من القماش أو أكثر من ذلك بقليل، مع بعض الفضة والذهب إن أمكن.. وتسير القافلة والرجال تدق الطبول.. وعند صلاة العشاء تخرج العروس فتجلس على (قعادة) مرتفعة وحولها النساء في ابتهاج.. وينقط للضاربات بالدفوف وتسمى (النقطة) والعروس جالسة (مربعة) على القعادة وهي (مولبة) بالخضر والفل، والكاذي.
ا
لنقــول
وهو انتقال العروس من بيت أهلها إلى بيت زوجها ويقدم لها أهل الزوج الطقم إما ذهبًا أو فضة. وفي صباح ليلة العرس تقوم العروس لتناول الإفطار مع زوجها وأهل العريس، ثم يأتي الضيوف لتناول القهوة ومباركة الزواج ثم ينصرفون إلى بيوتهم. وترتبط الفنون الشعبية بجميع ألوانها بالمناسبات الاجتماعية التي درج عليها أبناء هذا الوطن من الزواج إلى استقبال الضيوف، مرورًا ببعض العادات والتقاليد التي تستوجب الاحتفاء بها بمصاحبة هذه الألوان.. ورغم مضي السنين وتغير أنماط الحياة الاجتماعية على نحو كبير إلا أن شيئًا من الاندثار لم يطل تلك الفنون لما تحظى به من اهتمام ومحافظة. فلا تكاد تخلو مناسبة في منطقة من مناطق المملكة من الرقصات الشعبية الملائمة بما منحها الاستمرارية إلى الوقت الحاضر.
ولعل من أشهر الرقصات الشعبية في منطقة جازان رقصة السيف. وهي رقصة صامتة تؤدى دون نشيد، وتكون عادة في مناسبات الزواج والختان، حيث تبدأ هذه الرقصة بقرع الطبول حتى يجتمع الناس ويدار الرقص ثنائيًا ويمسك الراقصان المتقابلان بسيف مسلول أو عصى، ويتم الرقص برفع إحدى الرجلين وخفض الأخرى بالتناوب السريع مع ارتفاع الجسم وانخفاضه في حركة رشيقة، عندئذ يلوح كل رقاص بسيفه يمنة ويسرة في أثناء الرقص. وهناك الدقة وهي رقصة جماعية غنائية أيضًا، اشتهر بها أهالي جازان، وذلك عند الخروج من مكان لآخر. وتقام أيضًا عندما يدعو الدرم الأقرباء والأصدقاء المتفرقة دورهم في القرية أو المدينة، وعندما تقرع الطبول في هذه الرقصة يشكل الراقصون صفين أو ثلاثة، ويسيرون جنبًا إلى جنب في رقص سريع رائع السمع والمنظر. كذلك الزيفة وهي رقصة جماعية غنائية تقام ليلاً، خصوصًا في مناسبات الأفراح، حيث ينقسم الراقصون إلى صفين ويقوم الشاعر بتلقين الصف الأول نشيدًا ملحنًا من مقطعين وأربعة مقاطع ويلقن الصف الثاني نشيدًا آخر ليتفق النشيدان في آخر كل كلمة بطريقة الجناس ويختلفان في المعنى ويسمى الأول المرسم والثاني الردود ويبدأ الرقص بدقات الطبول. وهناك رقصة العزاوي والزامل والمعشى والجبلية أو الملهج، وهي من الرقصات التي كونت في مجملها إرثًا شعبيًا ما زال يحكي الواقع الثقافي لحقبة معينة امتد أثره على أبناء المنطقة حتى اللحظة.
النقش بالحنــاء
الحنة زينة يتغنى بها الجيزانيون في مناسباتهم حتى اشتهرت في ذاكرة الفلكلور والتراث الشعبي. وقد تختلف العادات والتقاليد في محافظات جازان إلا أن صبيا وأبي عريش وجازان قد أبرزت هذا الفن في رسم النقوش الجميلة، خصوصًا تزيين العروس.
وكما هو معروف فالحنة أعشاب طبيعية تجفف وتطحن حتى تصبح ناعمة، وتخلط بمواد مختلفة. ويفيد مسحوق الحنة في صبغ الشعر وتقوية فروة الرأس وإعطائه رونقًا ولمعانًا. وقد استخدمت خلطات الحنة في جازان في تغذية فروة الرأس، ومعالجة تساقط الشعر عند الرجال والنساء، ويستخدمونها قناع ماسك ومرطبًا للبشرة، وتعمل على إزالة الخلايا الميتة. وفن الرسم بالحنة له العديد من النقوش. ومن أشهر النقشات النقشة الهندية. وهناك نقوش مختلفة لكن النقشات الوردية هي مطلب الجيزانيات. وقد أقامت المحترفات من النقاشات في جازان وأبي عريش مكانًا لاستقبال النساء أيام المناسبات. وتم تخصيص جزء من منازلهن لاستقبال النساء ونقش أيديهن، حيث يصل سعر النقشة إلى 250 ريالاً. أما العروس التي يتم نقش يديها حتى البوع فيصل سعر هذه النقشة إلى ما بين 500 ريال إلى 1000 ريال.
ولمكانة هذا الفن وارتباطه بالتراث الجيزاني تشارك منطقة جازان كل عام في المهرجان الوطني للتراث والثقافة في أسبوعه الأخير المخصص للنساء بوفد من النساء اللاتي تجدن هذه المهنة، حيث يستقبلن الزائرات في قرية جازان التراثية بالجنادرية، ويقدمن أطباقًا من الحنة، فيما تقوم أخريات بالنقش للزائرات كجزء من الحفاظ على التراث وتعميقه بين الجيل الحاضر.