الفاو..
قرية ذات الجنان

يعد موقعها من أهم المواقع الأثرية على مستوى الجزيرة العربية. شكلت قديمًا مركزًا مهمًا وملتقى قوافل التجارة.

صالح محمود صالح

يعد موقع الفاو من أهم المواقع الأثرية على مستوى الجزيرة العربية، لما تمثله من نموذج حي للمدينة العربية قبل الإسلام، بكل مقوماتها من طرقات، وأسواق، ومساكن، ومقابر. وهي تطل على الناحية الشمالية الغربية للربع الخالي في نقطة تقاطع وادي الدواسر بسلسلة جبال طويق، عند ثغرة في الجبل يطلق عليها «الفاو», والتي استمدت القرية اسمها الحديث منها لتمييزها عن باقي القرى المجاورة لها.

عاصمة «كندة»
كانت «الفاو» عاصمة دولة «كندة» منذ القرن الرابع قبل الميلاد، حيث كان لها دور كبير في الجزيرة العربية لقرون عدة، فكانت مدينة مزدهرة، وشكلت مركزًا مهمًا وملتقى قوافل التجارة، وكانت تسيطر على الطريق التجاري، حيث لا تستطيع القوافل أن تسير دون المرور بها، إذ كانت نقطة عبور للقوافل إلى محطة تجارية مهمة على الطريق التجاري الممتد من جنوب الجزيرة العربية والمتجه شمال شرق إلى الخليج العربي وبلاد الرافدين وشمال غرب الحجاز وبلاد الشام، إلى أن أصبحت مركزًا اقتصاديًا، وسياسيًا، وثقافيًا في وسط الجزيرة العربية، فكانت مدينة تجارية مفتوحة للقوافل التجارية الآتية من الممالك العربية المختلفة.
وقد اتخذها الكنديون عاصمة لملكهم حتى القرن الرابع للميلاد، قبل أن يغادروها ويتخذوا من نجد مركزًا لحكمهم. إلا أنهم أقاموا فيها القصور والأسواق والمعابد المبنية من الحجارة المنحوتة بدرجة فنية عالية ولا تزال موجودة حتى الآن.

محمية طبيعية
القرية عبارة عن محمية طبيعية، حيث تشكل المظاهر الجغرافية المحيطة بها وقاية طبيعية لها كجبل طويق من الشرق. كما بنى سكان القرية بوابات في الجهات الشمالية والغربية والجنوبية، واستخدموا في حروبهم الخيل، وفي دفاعهم الرماح والنبال والسيوف، حيث يظهر ذلك في اللوحات الجدارية وبعض المجسمات النحاسية. كانت القرية عامرة بالمساكن، والمخازن، والحوانيت، والفنادق، لذلك فهي تزخر بمعالم ومقتنيات أثرية مهمة تُحدثنا عن الحضارة العريقة لدولة «كندة»، والهيئة التي كانت تظهر عليها البيوت والأسواق والمتاجر ونظام الأمن. كما تنبئنا تلك الآثار بثقافة سكان القرية، وأنشطتهم الاقتصادية والاجتماعية.
مناطق القرية
يقسم الموقع إلى مناطق عدة، هي المنطقة السكنية، ومنطقة السوق، ومنطقة المقابر، وتوجد في وسط كل من المنطقة السكنية ومنطقة السوق بئر لكل من المنطقتين. وتعد المنطقة السكنية من أهم معالم قرية الفاو، حيث تضم عناصر مهمة في حياة مجتمع «كندة»، وتمثل صورة مكملة لتصور المدينة قبل الإسلام. وتحتوي المنطقة السكنية للمدينة على شارعين رئيسين تتخللهما نقاط صغيرة لسقي الدواب من الخيول والإبل الداخلة للمدينة، ووحدات سكنية متميزة تتسع بعض غرفها حتى تصل إلى عشرة أمتار طولاً وثلاثة أمتار عرضًا.
وما يميز مبانيها، أيضًا، الدقة في استقامتها وضبط زواياها القائمة، واستخدام أعتاب من الحجر بعضها عليه نصوص مكتوبة بخط المسند، واستعمال الأخشاب للأبواب والأسقف، ووجود شبكات للمياه النظيفة تخرج من المنازل. وتصل بين المنطقة السكنية والسوق قنوات تحت الأرض لنقل المياه.

فن معماري متميز
يوجد بالقرية، أيضًا، بحسب لوحة جدارية اكتشفت بالموقع، مبنى مكون من سبعة طوابق أو أكثر. ومما دلت علية المكتشفات وجود مساكن لاستقبال القوافل القادمة للمدينة، وكان من بين تلك المكتشفات عدد من اللوحات الجدارية الجميلة، وتماثيل حيوانية وإنسانية صنعت بدقة وامتزجت عناصرها الزخرفية بتأثيرات خارجية سببها الاتصال الحضاري مع الحضارات المعاصرة لها من حضارات بلاد الرافدين، ومصر، وروما، وجنوب الجزيرة العربية.
وقد عرفت قرية «الفاو» فنًا معماريًا متميزًا من حيث مواد البناء وهندسة العمارة وتبليط مبانيها وزخرفتها من الداخل والخارج. واستعمل سكان القرية في البناء اللبن المربع والمستطيل، إضافة إلى استخدام الحجر المنقور والمصقول في الأساسات وبناء المقابر، والجبس المخلوط بالرمل والرماد في تبليط الجدران الداخلية للمباني، ودعموا مبانيهم بالأبراج المربعة والمستطيلة. يدل الطراز المعماري على أنه يمثل طرازًا عربيًا فريدًا برزت فيه مراعاة الظروف البيئية واحتياجاتهم المختلفة.
ومن معالم قرية الفاو ذلك «القصر» الذي عثر بداخله على رسوم فنية تمثل قيمة التطور الفني لهذه المدينة إذا ما قورنت بمثيلاتها في البلدان المتاخمة، بل إنها تفوقها من حيث الدقة والتناسق.
ومن الآثار المهمة الأخرى التي عثر عليها في «الفاو» مجموعة من المجسمات الحجرية والمعدنية التي تمثل مزيجًا حضاريًا يصل إلى القرن الثاني قبل الميلاد بالنسبة للمنحوتات المرمرية، وتضمنت المعثورات قطعًا منسوجة من الكتان وصوف الأغنام ووبر الجمال، وأواني معدنية مثل القدور، والسكاكين، والإبر، وأغماد الخناجر، والمفاتيح، والأساور، علاوة على المسكوكات التي كانت معظمها من الفضة، والتي تعد من أهم معثورات القرية، لأن معظمها قد ضرب فيها. كما عثر في القرية، أيضًا، على كميات كبيرة من الفخار، وهو إما فخار خشن أو رقيق أو مزجج، وهو ما يعد علامة بارزة في تاريخ قرية الفاو.

الزراعة
بالإضافة إلى ما تمتاز به «الفاو» من وجود كَمٍّ وافر من الآثار والتحف والأبراج والميادين والأسواق التجارية، فقد عرف أهلها الزراعة، حيث عثر في القرية على عدد كبير من آبار المياه، ولأنها تقع على واد يفيض بين مدة وأخرى، فقد حفروا الآبار الواسعة، وشقوا القنوات، وزرعوا النخيل والكروم، وبعض أنواع اللبان والحبوب. كما استعملوا جذوع الأشجار والنخيل في تسقيف منازلهم، والأخشاب المحلية والمستوردة لأبوابهم ونوافذهم. واهتموا بالثروة الحيوانية ومنها الجمال، والأبقار، والماعز، والضأن، والغزلان، والوعول.

اهتمام قديم
وقد بدأت الأنظار تتجه نحو قرية «الفاو» كموقع أثري منذ عام 1940 من جانب بعض موظفي شركة أرامكو، ثم تلا ذلك رحلات واستطلاعات علمية قام بها بعض علماء الآثار الأجانب. وقد قامت جامعة الملك سعود في الرياض برحلات متتابعة بدأت برحلة استطلاعية عام 1971، ثم بدأت أعمال التنقيب فيها منذ عام 1972.

تأهيل الموقع
نظرًا للأهمية التاريخية والحضارية الكبيرة لقرية الفاو، وسعيًا إلى تأهيلها ومن ثم فتحها أمام الزوار، تم تدشين أكثر من مشروع ومذكرة تعاون بين الهيئات المعنية المختلفة لتأهيل الموقع الأثري، خصوصًا الهيئة العامة للسياحة والآثار، وجامعة الملك سعود التي قامت بإنفاق ملايين الريالات في التنقيبات الأثرية فيه، ومع إمارة منطقة الرياض، التي تهدف من وراء المشاركة في تلك المشاريع، إلى إبراز تاريخ المملكة وحضارتها من خلال المحافظة على الموقع، لما يمثله من قيمة تاريخية وحضارية كبيرة لها. كما تهدف تلك المشاريع إلى تحقيق مجموعة من الأهداف الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية، ليكون الموقع معلمًا تاريخيًا وشاهدًا حضاريًا للقرية، ولكي يلعب دورًا اقتصاديًا، وثقافيًا، واجتماعيًا في منطقة الرياض ومحافظة وادي الدواسر، علاوة على عرض المكتشفات الأثرية للدارسين، والباحثين، والمهتمين بالتراث الثقافي وزائري المنطقة، ودعم الاقتصاد المحلي، وتوفير فرص عمل جديدة.