إلى حيث الغابة والبحر والجبل

زيارة إلى زنزانة الحرية حيث حُبس جسد مانديلا وحلَّقت آمال الحرية في الآفاق.

فضيلة الجفال
كاتبة سعودية

أإلى فندق محمية «كروغر بارك» في جنوب أفريقيا، انطلقنا بالسيارة، بعد أن حطت بنا الطائرة في المطار المحلي قادمين من جوهانسبرغ، وهو مطار صغير أشبه بمتحف مليء بمنحوتات تحمل طابع القارة الأفريقية. كان الطريق من المطار إلى محمية كروغر في «مبوملانغا»، ليس قصيرًا لكنه غير ممل البتة، حين تتوقف لالتقاط الصور التذكارية مع باعة الفاكهة الطازجة من الأفارقة من النساء وباعة المنحوتات الخشبية الفاتنة على امتداد الطريق، كما تناولنا حزمة من مكسرات ثمار الماكديميا الطازجة المقطوفة من الشجر مباشرة. وصلنا إلى البوابة الضخمة للمحمية، حيث تنتظرنا لحظات غنية بالمتعة.
قبل شروق الشمس في ذلك اليوم البارد اللطيف، انطلقت بنا سيارات السفاري الخضراء، إلى حيث البحث عن الفيلة وحمير الوحش والأسود. توقفنا في منتصف النهار نتنفس رائحة التربة الطازجة المختلطة ببقايا زخات المطر من البارحة. عدنا أدراجنا مع مغيب الشمس مخترقين الأفق الذهبي. كانت رائحة الأخشاب وهي تحترق تبعث الدفء والسكينة مع طعام العشاء مع جمع من السياح الفرنسيين والإيطاليين، وكانت الحيوانات تتسلل إلى المنطقة الخالية في المحمية، فلا عجب أن تلمح ضبعًا يتمشى أسفل البلكونة تمامًا، أو عيون الفهد تلمع في الظلام بين الأشجار وهو يفترس بقايا زرافة. ثم انطلقنا إلى العاصمة كيب تاون، كانت الشمس قد بدأت تسقط خلف الجبال المترامية وحول جبل الطاولة الشهير Table Mountain، حين سمعت أصوات المؤذنين تتداخل من مساجد عدة. مشهد سماعي مثير، تتداخل أصوات المؤذنين عند شبابيك الفندق الذي يشرف على مختلف زوايا المدينة بجبالها ومحيطها. زرنا مزرعة النعام، وتسلقنا أعلى الجبال، وسرحنا أمام البحر بالطائرات الورقية التي تشاكس الرياح الثائرة. كما زرنا متاحف عدة، وكانت صور الغنى الثقافي والتعددية متجلية بقوة في الفن، من بينها متحف «روبرت» الذي اشتمل على غنى فني نادر بين الشرق والغرب. تجد بين اللوحات صورًا لملامح عربية بعضها لشبان يمنيين سكنوا زنجبار. من بين ذلك أيضًا منزل الفنانة التشكيلية الجنوب أفريقية «إيرما ستيرن»، التي خصصت بيتها مزارًا سياحيًا بلوحاتها الاجتماعية الرائعة.
في أشهر أحياء المدينة «ملاي» تتناثر البيوت الملونة، بيت أخضر، يجاوره أصفر ومن ثم زهري حتى تنتهي قائمة الألوان. رمزية رائعة، إنه الربيع بكل معانيه. هذا حي المسلمين الذي ينام بوداعة، بين الأحياء مختلفة الديانات، على المرتفع التلي وسط المدينة. المسلمون يتأهبون للعيد، الأطفال مهندمون، السيدات يقمن بالإعداد لحفل العيد الجماعي «تدفعين 60 راندًا وتشاركين معنا العيد بطهي طبق والاحتفال في مطبخنا الجماعي»، قالت لي السيدة حميدة المسلمة. عند إشارة المرور، كانت تقف بجانبنا سيارة تنطلق منها أغنية «شاكيرا» التي غنتها خصيصًا لدى استضافة البلاد كأس العالم قبل أعوام. انطلقت السيارة بين جمع السيارات في المدينة الكبيرة المنظمة. قطعنا التذاكر إلى جزيرة «روبن آيلاند»، من كشك صغير قريبًا من ذلك المرفأ الفاتن الذي يخترق جسره وسط مدينة كيب تاون. وحول ذلك تربض عشرات المقاهي وقاعات السينما والفنادق الفارهة. «هذا الفندق سكنه كبار مشاهير العالم من سياسيين وفنانين وغيرهم، لطالما سكن هنا مايكل جاكسون أيضا!» قالها موظف الفندق بفخر واعتزاز واضحين، قبل أن تبدأ الوصلة الموسيقية في قاعة العشاء لمغن أسمر قدم نفسه للحاضرين بسعادة. تناولنا ذلك المساء طبقًا ضخمًا شهيًا من المحار المطهو بالأعشاب والملح. بعد ليلة هادئة، كنت أسير وصديقاتي في الصباح على ذلك الجسر الذي يقودنا إلى السفينة.
استوينا على مقاعدنا في السفينة مع الجمع المنظم وانطلقت بنا. بعد 25 دقيقة من الإبحار، لاحت الجزيرة كلغز معشب غامض. كيف لا وقد أصبحت الجزيرة مزارًا سياحيًا بامتياز يدر الملايين من الراندات الأفريقية يوميًا. اصطففنا بانتظام للنزول حيث الحافلات التي تنتظرنا على الشاطئ. استقبلتنا سيدة جنوب أفريقية سمراء تشبه إلى حد بعيد الإعلامية أوبرا وينفري. تلف السيدة شعرها المجعد بتنسيق متقن، وترتدي زيًا رسميًا عبارة عن طقم مكون من جاكيت وتنورة قصيرة كحلي اللون، كما لو كان زي جندي برتبة عسكرية مرصعة بالنياشين. وجهها جاد وأسلوبها وطريقتها السياحية كوميدية، دون أن تفتر شفتيها عن ابتسامة. تقول وهي تجلس في مقدمة الحافلة من اليمين أمامي تمامًا: «أين أنتم أيها الألمان؟ من منكم من أمريكا؟ من من البرازيل؟» تخبرنا عن الجولة، وتعدد الجنسيات الموجودة في الحافلة، ويجيبها السياح من تلك الدول بمرح لافت. كانت تعلق بكلمات تهكمية طريفة، ثم قالت: «هل نسينا جنسية أحدكم؟»، قلت بصوت مسموع «السعودية!».. هتف السياح «الأمريكان» محيين! هذه الجزيرة متحف تاريخي وشاهد حي على مرحلة تحوّل مريرة من تاريخ جنوب أفريقيا. دقائق وكنا هناك أمام باب زنزانة مانديلا في العنبر D، تدافع السياح أمام الباب الحديدي. مساحة ضئيلة بها اللحاف نفسه المصنوع من الليف، وجردل للفضلات البشرية، وصحن معدني صغير يأخذ فيه وجبة حساء الدقيق في الصباح والظهر. كانت فلاشات الكاميرا تتسابق لالتقاط صور لذلك المكان الذي أصبح رمزًا للحرية، والشمس من فتحة ضئيلة بالأعلى تعكس قضبان الزنزانة، وتعكس خطوطًا منتشرة في الداخل. كنا وبقية السياح قد انتثرنا بسرعة نحو البحر، قبل الصعود إلى الحافلة ثم السفينة، نحو طريق متعرج بالصخور إلى الأسفل. حشوت مخبأ معطفي ببعض الصدفات الجميلة للذكرى. لكنَّ مشرفي الجولة طلبوا منا عدم الاحتفاظ بأي حصاة أو صدفة، بل إعادتها إلى الشاطئ: ممنوع حمل أي حصاة أو صدفة، كل شيء هنا هو ملك للجزيرة. وقد فعلنا احترامًا للنظام!