بودابست..
المدينة الآسرة

مدينة يتجاور جزآها بسبعة جسور تمتد فوق نهر الدانوب، ويتجاور تاريخها وحاضرها في عمارة متميزة.

عبير العمودي

عندما هبطت بنا الطائرة في مطار فيينا الجميلة كانت الأيام التي سنقضيها هناك أطول مما تحتمله مدينة، ربما تكون قد زرتها لأكثر من مرة. وبما أن فيينا نقطة وصل بين عدد من المدن والعواصم التي تصل إليها رحلات الخطوط السعودية، وقع اختيارنا أن نمضي قدمًا إلى هنغاريا بعد أن قضينا أيامًا في العاصمة النمساوية. كانت الطرق لهذه الرحلة الجديدة متاحة أما عبر نهر الدانوب، أو من خلال شبكة الطرق التي تربط النمسا بهنغاريا.

هنغاريا.. الأوروبية الشرقية
هنغاريا أو كما تُسمى بلاد «المجر» تقع بين سبع دول أوروبية هي إيطاليا، وسلوفاكيا، وأوكرانيا، ورومانيا، وكرواتيا، والنمسا، وصربيا، وسلوفينيا. ما إن تطأها حتى ترى روحًا شرقية جميلة ممزوجة بعراقة أوروبية متألقة. تزداد دهشتك من المكان والناس عندما تتصفح تاريخ هذه البلاد. فلو قلّبت صفحاتها لصدمك تاريخ المجريين الذين عانوا كثيرًا من ويلات الحروب واحتلال الممالك المتعاقبة لهم بدءًا من الرومان والمغول والعثمانيين، ثم الشيوعيين والحرب العالمية الثانية. ستظن أنك ستقابل شعبًا أقل ما يقال عنه أنه يتوجس خيفة من الغرباء، لكن العكس ما سوف تراه.. سترى شعبًا بشوشًا.. يحفظ تاريخه، ويقدر ما صاغه الأوائل، فتجده ساعيًا في ترميم كل ما من شأنه أن يمثل حقبة ما، وذلك حفاظًا على الروح والتاريخ. عدا كل ما من شأنه أن يمثل اندماجًا واضحًا مع التطور المعاصر لا سيما في العاصمة بودابست تلك المدينة التي يمكنك أن تعيش تاريخها وحاضرها في الوقت ذاته وأنت تستمتع بطقسها البارد المحمل بالنسمات اللطيفة الآتية تارة من نهر الدانوب، وتارة أخرى من الهضاب التي تحيط بالمدينة لا سيما في شهر سبتمبر، حيث يعد شهرًا مثاليًا لزيارتها. ولعل من أهم ما يميز بودابست هو نهر الدانوب.. أو نهر العواصم كما يسمى، إذ يمر بالعاصمة فينيا. يمكنك أن تبحر فيه متنقلاً بين العواصم من خلال العبّارات المنتشرة على ضفافه، كما أنه يُقسم اليوم بودابست إلى قسمين، وقد كانت في الأصل مدينتين اتحدتا فيما بعد لتصبح بودابست. كانتا بفعل الدانوب الذي لم يزل بودا وأوبودا (أي بودا القديمة) على الضفة الغربية، ومدينة بست على الضفة الشرقية. أما اليوم فجمع الاسم الذي فرقه النهر لتصبح (بودابست). عندما تنظر جهة الغرب ستتراءى لك «بودا» التي أحاطتها التلال المكسوة باللون الأخضر، وينتصب في أعلاها تمثال الحرية الخاص بهم، وهو يمثل امرأة تحمل في يدها سعفة نخيل. ستشاهد جمالاً عمرانيًا مبهرًا عاصر الحصار والويلات والحروب العديدة، ما جعلها تعيد بناء مبانيها التاريخية محافظة على الجمال الأصيل لها. كما أنه في غالب الترميم يميلون إلى إعادة استعمال الأنقاض لإعادة إحيائها. «بودا» وهو الجزء التاريخي المرتفع والذي انطلقت منه الثورة المجرية عام 1848، يحتوي على العديد من المزارات التي تجذب الكثير من السياح، بالإضافة إلى مبنى البرلمان المجري وقصر كيريالي بالوتا الذي يعد متحفًا كبيرًا، ومركزًا ثقافيًا مميزًا في هنغاريا. عندما تتجول في مساء بودابست تنخفض درجات الحرارة، ولن تشعر حينها إلا بدفء التاريخ الذي ستشاهده في طرقات بودا متجليًا في حصن هالازباستيا (حصن صياد السمك) بشرفاته ذات الطراز الروماني والأوروبي، وستستمع حينها إلى عزف إحدى الجوالة على آلة الكمان التي ستأسرك أنغامه.
أما الجزء الشرقي«بست» فتعد مركزًا تجاريًا مهمًا، حيث تكثر فيها الأسواق والمحال التجارية، ومراكز الترفيه، وهي مدينة تعج بالحركة ليلاً ونهارًا، ويرتبط الجزآن بسبعة جسور تعد من أجمل الجسور التي يمكن أن تشاهدها، إذ يحمل كل جسر طابعه وتاريخه الخاص وتصميمه المميز. وحينما تسير على أحد الجسور ستشعر وكأنك معلق بين السماء والنهر. والعجيب أن هذا الجمال يختلف مشهده تمامًا في الليل عن النهار، وكأن لكل منهما روحًا مختلفة.
يحتوي الجانب الشرقي «بست» أيضًا على أكبر حديقة حيوان في أوروبا، وفنادق، ومناطق سياحية تجذب السياح. وعلى غرار«لندن آي»، يوجد كذلك«بودابست آي»، وهي عجلة شاهقة الارتفاع يمكن أن تحمل 332 شخصًا. كذلك تميزت منطقة بست بمبانيها العتيقة والمعاصرة، وبوجود ساحة الأبطال التي تتمتع بهندسة معمارية مميزة، إذ تعد الساحة أحد مواقع التراث العالمية. يوجد بها نصب تذكاري ضخم يُعرف بنصب الألفية، وهو يمثل قادة القبائل السبع التي كونت المجر. ويطل على الميدان مبنيان مهمان في العاصمة المجرية وهما متحف الفنون الجميلة، وقصر الفنون. بعدها يمكنك الانتقال إلى مقر الحمَّامات المعدنية «سيشينى» وهو أكبر الحمَّامات العلاجية التي ستشاهدها في بودابست. كما يمكنك شراء المياه المعدنية من الأكواخ المنتشرة في تلك المنطقة. وستجد أن هذه المياه لها طعم كطعم المعدن بالفعل. من المعروف أن بودابست تشتهر بحمّاماتها المعدنية والساخنة بدرجات تتراوح بين 21 درجة و76 درجة مئوية لتنتشر مراكز العلاج الطبيعي فيها. وتنفرد المجر بوجود أكبر بحيرة مياه معدنية علاجية في العالم، وهي «هَيفيز» على الساحل الشمالي لبحيرة البالاتون (جنوب غربي بودابست)، وتبلغ مساحتها 4.4 هكتار. وتصل حرارتها في الصيف بين 34 درجة و36 درجة، وفي الشتاء بين 26 درجة و29 درجة.
أما عند زيارتك لمنطقة شارفار «قصر الطين» التي تتميز مطاعمها بأطباقها المجرية المكونة من لحم الغزال المشوي والبطاطس، وشوربة القولاش التي تحتوي، أيضًا، على لحم الغزال والخضراوات، فستعيش تجربة المذاق المجري بكل ملذاته.

البورسلين.. الفن الأصيل
يوجد في هنغاريا أكبر مصنع على مستوى العالم لصناعة البورسلين المصنع يدويًا وهو«herend porcelan»، وذلك في بلدة هيريند بالقرب من مدينة فيزبريم.. وهو مكان يستحق الزيارة إذا وصلت إلى هنغاريا، إذ يمكنك مشاهدة المعنى الحقيقي للإتقان اليدوي في صنع الأواني والتحف الخزفية بمهارة عالية.. يخضع العاملون في المصنع إلى التدريب والدراسة لمدة عامين كاملين حتى يتمكنوا من الالتحاق بالعمل رسميًا في المصنع، ما جعله من أهم المصانع المنتجة للبورسلين الفاخر اليدوي. فهو مقصد للعوائل الأرستقراطية الأوروبية منذ منتصف القرن التاسع عشر. كما يقصده اليوم المهتمون من كل بقاع العالم بفن البورسلين، وذلك لتصميم أوانيهم الخاصة وتصنيعها. ويُصدَّر البورسلين الهنغاري اليوم لأكثر من 60 بلدًا. مصنع البورسلين في هيريند ليس مصنعًا عاديًا، بل مصنع يُثمِّن الفن والهوية الخاصة لكل زبون، حيث يجتمع المصممون والفنيون بالزبون قبل الشروع في صناعة الأواني أو التحف الخاصة به، ليتفق الجميع بعد المشاورة والمداولة على الشكل النهائي، وعدد القطع لأطقم السفرة أو ما شابهها ليتم تنفيذها. كما يستطيع السياح القيام بجولة استطلاعية لمشاهدة كيفية صناعة هذه التحف الفنية من بين أنامل الفنيين الذين يبدعون ويبتكرون باحتراف أصيل. ويمكن للسائح بعد نهاية الجولة شراء ما يعجبه من المنتجات المصنوعة مسبقًا، أو طلب إرسالها إليه فيما بعد، إذ هناك خدمات لمثل ذلك وبإمكانهم إيصال الفن الأصيل (البورسلين) لأي مكان في العالم.