إسطنبول.. الذوق والمذاق

لإسطنبول حضور خاص في التاريخ والزمن الذي يعيشه الناس، وفيها ما ينجذب إليها الزوار من كل حدب وصوب.

عبير الفوزان

يقال إن إسطنبول بُنيت على سبع هضاب، لتستمد من تضاريسها بعض شموخها الماثل في تفاصيلها الجميلة والتاريخية. فلو قُدر لك أن تعبر مضيق البوسفور ليلاً، لشاهدت المنازل شاهقة على ضفتيه وكأنها معلقة في السماء. فهي مدينة تُخيل للناظر أنها بُنيت بين الأرض والسماء، لا بين آسيا وأوروبا.
عندما تُذكر إسطنبول يستحضر الذهن مساجدها ذات المنارات المتعددة، وقصور السلاطين. هي مدينة تشبه كتابًا تاريخيًا يفتح دفتيه لمن يتتبع المعرفة، بينما تفتح إسطنبول ذراعيها طوال أيام السنة للسياح القادمين من جميع بقاع العالم، وهي في كل فصول السنة مهيأة ليقف السياح على أجمل معالمها وأكثر أماكنها تجمعًا للسياح مثل: أيا صوفيا، مسجد السلطان أحمد، سوق البهار، جراند بازار، قصور وقلاع لا تنتهي، جزر تمثل الحلم.
لكنّ لإسطنبول وجهًا آخر.. وجهًا غير معتاد أنه وجه يغري زائريها بكل ما يثير الحواس، فيغادرون مطارها الدولي «كمال أتاتورك» على أمل مجدول بالعودة إليها مرة أخرى.

راحة الحلقوم وعبق القهوة
لحاسة التذوق نصيب من المتعة في مدينة سياحية بامتياز بدءًا من مذاق القهوة التركية الأصيلة ورائحتها، مرورًا براحة الحلقوم التي يحملها السياح معهم هدايا للأصدقاء والأقارب ليتذوقوا حلاوة إسطنبول، وانتهاء بالبقلاوة المحشوة بالفستق والمغمسة في العسل والقطر التي تختلف عن أي بقلاوة أخرى. فظهور البقلاوة لأول مرة في القرن الثالث عشر الميلادي في بلاد الرافدين لم يتوقف عند هذا الحد، بل نقلها العثمانيون إلى الآستانة أو إستانبول لتكون طبقًا حلوًا يُقدم للسلاطين ولضيوفهم، ما جعل الطباخين يتفننون في هذا الطبق ويغدقون عليه من خير بلادهم (الفستق والعسل) لتنضج البقلاوة أو (الفقلاوة كما تسمى بالتركية) من تحت أيديهم طبقًا سلطانيًا بامتياز.. بقلاوة حافظ مصطفى التي تعود للقرن التاسع عشر ما زالت تقدم في محلاته التي أصبحت مقصدًا ومعلمًا ذوقيًا لكثير من السياح العرب والأجانب، لا سيما في منطقة سيركيجي. هناك بالإمكان أن تتخفف من حرصك قليلاً وتأكل الفستق التركي اللذيذ ملفوفًا في رقائق هشة، ومغموسًا في العسل.. هذا هو الوصف الملائم للبقلاوة التركية. لكن ما يؤلم في إسطنبول وأنت تبحث عن المذاق والذوق هو ذلك الازدحام الذي يصل أحيانًا حد الاختناق. ولا عجب عندما تعلم أنها تعد ثاني أكبر مدينة في العالم من حيث تعداد السكان، وذلك بعد شنغهاي الصينية، فقد تجاوز تعداد سكان إسطنبول 14 مليون نسمة ناهيك من السياح الذين يزورونها باستمرار. وبرغم وسائل المواصلات المتعددة مثل الحافلات، وسيارات الأجرة، والمترو إلا أن الازدحام، لا سيما في منطقة تقسيم والسلطان أحمد، والشوارع التي تعد شريانًا لإسطنبول، قلما يُتغلب عليه وقت الذروة. لكن إسطنبول مدينة ساحرة لا تستحق الضجر، حتى لو غرقت في ازدحامها اليومي، بل عليك الاجتهاد في البحث عن وجهها الآخر الذي سيدفعك، بلا شك، لزيارتها كلما سنحت الفرصة.

الوجه الآخر.. الذوق الآخر
في منطقة البشكتاش وجه آخر لإسطنبول بدأت ملامحه تظهر منذ بداية عام 2014.. إنه وجه يجمع بين فخر الشرق وأناقة الغرب..يمثل مكانًا يجعلك في حيرة من أمرك.. فهو على مضيق البوسفور القديم، ولا يبتعد عن أهم قصر في إسطنبول (دولما بهجت) الذي سكنه ستة سلاطين من العثمانيين.. إن المكان ذو وجه حضاري صبوح لمدينة أرادت أن تخرج من عباءة العثمانيين قليلاً لتقول: «ها أنذا أسطنبول الأوربية الجميلة». في البشكتاش أكثر من 70 فندقًا، بعضها يطل على البوسفور، وبعضها ينزوي بين أزقتها التي ترهق السياح هبوطًا وصعودًا، فهي مبنية على هضاب، لكنها مع المشقة ذات أسعار مناسبة.. أما في مركز زورلو فستلمح وجهًا أوروبيًا في إسطنبول، وستلمس هدوءًا مغايرًا، مع حياة تتماهى بين الفن والجمال.. والمذاق أيضًا.
خيارات السكن في البشكتاش متنوعة، لكن لو أردت أن تعيش ترفًا ظاهرًا وتستجم بضعة أيام قريبًا من مركز للتسوق، ومركز للفنون ومطاعم تتميز بالمذاق الرائع.. فسيكون فندق رافلز إسطنبول، الذي افتتح مؤخرًا، خيارًا مناسبًا، قريبًا من مركز التسوق الذي يضم عددًا من العلامات التجارية العالمية المتخصصة في الأزياء والتجميل، بالإضافة إلى دار للأوبرا تعد ثالث أكبر دار أوبرا في العالم، وأكبر دار أوبرا في الشرق الأوسط، التي صممت بتقنية معمارية وصوتية عالية المستوى. وفي صفحة هذا الوجه الحضاري المترف هناك نخبة مختارة من المطاعم العالمية التي تعد الأولى من نوعها في الشرق الأوسط، وعدد من المقاهي العالمية التي تعد مقصدًا لكثير من الناس.
إسطنبول اليوم تفتح الخيارات على مصراعيها أمام السائحين.. فالتصنيف في أماكنها ومطاعمها ومقاهيها أصبح أكثر دقة.. كل ما عليك فعله هو أن تحدد وجهتك وذائقتك لتستمتع بالتذوق، وبالترف العصري أو بالذوق الأصيل في المذاق.. في إسطنبول أنت أمام جملة من الاختيارات الذوقية، لأنك ستكون أمام ذوق أمهر الطباخين الذين حازوا نجمات ميشلان، أو أمام الطهاة التقليديين الذين ورثوا من ذويهم مهنة كانت ترضي ذائقة السلاطين.