مسابقة اقرأ الوطنية:
لسنا وحدنا في هذا العالم
أرامكو السعودية تبشر بمجتمع معرفي متنوع قادر على إضافة شيء إلى هذا العالم.
عبداللطيف المبارك
معندما نتطرق إلى كلمة «القراءة» ينطلق الذهن مباشرة إلى الكتاب، والورق، ورائحة الحبر، والكرسي المريح، والمكتب ذي الزوايا القائمة، حينما نتطرق إلى القراءة نشعر بأننا فجأة نلبس نظارات سميكة وننقطع عن التواصل مع الآخرين، نغرق في السطور وما بين السطور، وربما نستحضر قول الفيلسوف الألماني شوبنهاور: «القراءة هي التفكير باستخدام عقل آخر»، أو ربما لا نميل إلى صرامة الألمان ونذهب مع قول الأرجنتيني مانغويل: «أحب التيه في عقول الآخرين. عندما لا أتمشى أقرأ، إنني لا أستطيع أن أجلس ببساطة وأفكر.. الكتب تفكر عني». هناك كثير من الكلمات التي قيلت عن القراءة بطريقة تشعرنا بالانفصال عن العالم، أو الاتصال بطريقة غير تفاعلية مع المجتمع والناس، أي أن القارئ هو إنسان يتلقى ويستمر في التلقي وليس شرطًا أن يتفاعل أو يحدث أثرًا بين الناس والمجتمع. إن مفهوم القراءة يطرح دائمًا غاية لذاتها، بمعنى أنك تقرأ لتتبنى الأفكار الأخرى فقط، لأن هناك من فكر قبلك ومن وصل إلى النتيجة. والحقيقة أن هذه الطريقة في انتقاء الكلمات خاطئة، بل إن الأشخاص أنفسهم الذين قالوا هذه الكلمات لهم كلمات أخرى تحفز على المشاركة والتفاعل، بل إن وصول كلماتهم إلينا دليل كاف على التفاعل، وأن مهمة القارئ غير محصورة في التلقي فقط.
من اللافت للانتباه أنه في مقابل هذا التصور عن القارئ القديم، تم تطوير شكل آخر للقارئ في الزمن الحديث، ذلك الذي يزاحم الناس في معرض الكتاب لشراء مجموعة كبيرة من الكتب بعشوائية كبيرة، فقط ليتم تصويرها ونشرها في وسائل التواصل الاجتماعي، أو البحث عن التواقيع من مؤلفي الكتب غير الجيدة، أو التصفح على شرفة أوروبية مع قهوة الصباح وأغان خفيفة تشتت التركيز، ما يجعلك تمشي وتردد: «وعند الشيخ كتبٌ من أبيهِ، مصففةٌ ولكن ما قراها». هذه الحركة أو «الموضة» التي بدأت تسطح معنى الكتب إلى الحد الذي جعلنا نشعر بأنه لا يوجد فرق حقيقي، بين قراءة الصحف اليومية وقراءة الكتب، حينما أصبح الغلاف أهم بكثير من المحتوى، لأن الغلاف هو الذي سيظهر على شاشة العرض حين تصور كتابك، هذه الحركة جعلت الجميع يتجرأ على الكتابة، ولكن هذا النوع من التفاعل يعد تفاعلاً سلبيًا حيث إنه يساعد على تسطيح الوسيلة الكبرى والتي لا تزال الأولى في التلقي المعرفي، ألا وهي القراءة.
بعيدًا عن كل ما سبق أشعر بحرج كبير حينما أتكلم عن القراءة، وأنا أقف الآن بين أربعين قارئًا من العيار الثقيل، في مسابقة اقرأ الوطنية التي تنظمها مبادرة أرامكو السعودية لإثراء الشباب، التي تعد أحد برامج مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي الذراع الثقافي لأرامكو السعودية. أربعون قارئًا تم اختيارهم بعناية من كل أنحاء المملكة العربية السعودية، بين آلاف المتقدمين، خرجت لنا هذه النخبة المتنوعة في اهتمامات القراءة من الجنسين، وكذلك الأعمار والمراحل التعليمية، من شباب المرحلة المتوسطة وبناتها، إلى الثانوية والمرحلة الجامعية. هذه المسابقة التي تغير مفهومنا البسيط عن القراءة عن طريق ورش عمل تستمر لأربعة عشر يومًا، ورش قائمة على فكرة تطوير مفهوم القراءة من كونها ورقًا وحبرًا وجلدًا سميكًا، إلى قراءة للحياة وتلاقح وتفاعل، يذكرنا باللقاء الشهير بين أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز والعالم الجليل ميمون بن مهران حين قال له الأول بعد أن تحادثا لمدة ثلاثة أيام: «يا ميمون بن مهران إني رأيت محادثة الرجال لواقحُ لألبابها». حين يكون التقدم للحديث مجازفة كبيرة، وبخاصة حين تدرك أنك أمام عقول قادرة على النقد والتحليل، كل متحدث يدرك أنه أمام جمهور صعب، ذائقته لا تتقبل البسيط، وقادرة على تحليل المعقد بكل بساطة، الدخول في مثل هذه الورش يعلمك أن العلم بحر حقًا، لا يمكنك أن تحيطه لوحدك، ويلح عليك قول قديم يقول: «من تصدر قبل آوانه، فقد تصدى لهوانه». مثل هذه الورش تعلمك التواضع، بل أزعم أنها توصلك إلى الشبر الثالث من العلم كما قيل إن من دخل الشبر الأول تكبر، ومن دخل الشبر الثاني تواضع، أما الشبر الثالث إذا دخلته فستعلم أنك لا تعلم.
هذه النواة التي تزرعها أرامكو السعودية تجعلنا نتفاءل بمجتمع معرفي متنوع، قادر على إضافة شيء إلى هذا العالم، هذا النوع من الاحتضان الذي كان متعذرًا في السابق، يجعلنا نشعر بأن هؤلاء الشباب والشابات، لن يتقاعسوا عن إكمال مسيرة المعرفة، لسبب بسيط، هو أنك حينما تجد مجتمعًا يشاركك اهتمامك، بل ويحفزك بطريقة تنافسية، بالتأكيد سيدفعك ذلك للأمام.
عادة ما ينشأ القراء فرادى لا يعلم أحدهم عن الآخر، خصوصًا حينما يجدون أن من يتصدر المشهد ليس بالكفاءة الكافية، يشعرون بأن الكتب الأكثر مبيعًا لا تستحق ذلك، وأن تلك الكتب التي في آخر الرف، الكتب المليئة بالغبار والتي لا يلتفت إليها أحد هي الأكثر أهمية، والأكثر إثراءً، لذلك جاءت مبادرة أرامكو السعودية لإثراء الشباب لتخبرنا أننا لسنا وحدنا في هذا العالم.