الإسراف في تدليل الطفل أو المبالغة في حمايته قد تؤدي إلى إصابته
باضطرابات سلوكية.
لوري تاركان
By: Laurie Tarkan
تعد مدينة الجبيل، إحدى مدن المنطقة الشرقية، من أجمل المدن بالمملكة، حيث تتميز بنظافة شوارعها، وإتقان تنظيمها، وتعد بمركزها المطل على بلغت سيلي Celie ابنة تامي ريفيا Tammy Revia الشهر التاسع من العمر، لم تكن قد أصيبت بعد بزكام أو حمّى، إلا أن ريفيا أصرت على إبقائها بعيدة عن الملاعب، وكانت تتجنب أن تعرّضها لأي احتكاك مع أولاد تظهر عليهم مؤشّرات الإصابة بمرض ما. بل إنّ ريفيا كانت تعمد إلى مسح كل ما تلمسه بمناديل مضادة للجراثيم بدءًا من هاتفها المحمول، ومرورًا بعربة السوبرماركت، ووصولاً إلى مقابض الأبواب. تقول ريفيا وهي أيضًا ممرّضة من تكساس: «عندما كنت أسمع سيلي تشهق أو تعطس، كنت أشعر بانقطاع قدرتي على التنفس».
سيلي ليست ضعيفة المناعة أو مريضة، إلا أن ديفن Devin، طفل ريفيا الأول، كان قد ولد قبل أوانه، ثم عانى الأمرين، وبقي على مرّ تسعة أشهر حبيس وحدة العناية المركزة لحديثي الولادة. وبعد مرور وقت قصير على عودته إلى المنزل، توفي ديفن ولمّا يبلغ بعد عامه الأول. منذ ذلك الحين، أصبحت ريفيا تستشعر الخطر في كل شيء. فأي إعلان تجاري عن مطهّر يناقش وجود جراثيم غير مرئية كفيل بأن يصيبها بالهلع، والبعوض يبدو لها صواريخ مصغّرة ناقلة للجراثيم. بل إنها قد تعتقد أن أي نتوء صغير على رأس سيلي هو تجلط دموي في الدماغ. وفي هذا السياق تقول ريفيا: «عندما يمر المرء بالكثير من المصاعب، يصبح في حالة ترقب دائم لوقوع المزيد من الأمور السيئة».
الواقع هو أن الكثير من الأمهات، شأن ريفيا، يعانين اضطرابات القلق الحادة التي غالبًا ما يكون سببها حادثة صحية مؤلمة مررن بها في الماضي، فتركت بصمة في نفوسهن. ولبعضهن الآخر، قد تؤدي تلك الحادثة إلى اضطرابات ما بعد الصدمة (PTSD) المرتبطة تقليديًا بالنجاة من الحروب. لكن حتى وإن كانت الحالة غير حادة إلى تلك الدرجة، إلا أنها تضيف المزيد من التوتر إلى حياة العائلة اليومية وتعرّض الطفل لمخاطر الإصابة باضطرابات سلوكية في المستقبل.
إجهاد متجذر في أعماق النفس
إنَّ اضطرابات القلق الأمومي ليست بالضرورة في تزايد لكنها بدأت تأخذ حيزًا أكبر من الاهتمام. فبحسب د. ديان لانغكامب Diane Langkamp، الاختصاصية في طب الأطفال التنموي والسلوكي في مستشفى أكرون للأطفال Akron Children’s Hopsital في ولاية أوهايو، «ثمة اعتراف متزايد بأن مستويات القلق والاكتئاب مرتفعة بين أمهات الأطفال صغار السن». ويشير الخبراء في السياق نفسه إلى ارتفاع معدّلات نجاة الأطفال الخدّج الذين تستدعي حالاتهم المكوث في وحدة العناية المركزة لحديثي الولادة، وإلى تطوّر العناية الطبية التي تسمح للأطفال بالتعافي من مجموعة متنوعة من الأمراض المؤلمة. لكنّ الأهل الذين عاشوا صدمة رؤية رضيعهم الصغير وهو موصول إلى آلات ومحاط بأطفال شديدي المرض، قد يجدون صعوبة في التخلّص من تأثيرات تلك التجربة، ما قد يؤدي بهم إلى الاكتئاب والكوابيس والقلق والحذر المفرط فيما يتعلق بصحة طفلهم بعد أن يكون قد غادر وحدة العناية المركزة منذ وقت طويل. دخلت جيمي كلافانس Jamie Klavans في المخاض وهي في الأسبوع الخامس والثلاثين من الحمل وأنجبت ابنها ماثيو Matthew الذي احتاج إلى جراحة عاجلة في القولون. لاحقًا وعلى مرّ 15 شهرًا، أخضع الطفل لأربع عمليات جراحية أخرى. اليوم وعلى الرغم من أن ماثيو البالغ من العمر 5 أعوام يتمتّع بالصحة والعافية، إلا أن كلافانس تتخوّف من أن ينتهي به الأمر مجددًا في المستشفى. تقول كلافانس، وهي سيدة من بروكفيلد في ولاية كونيكتيكت: «عندما كان طفلي مريضًا، انشغلنا به ولم يكن لدي الوقت لاستيعاب أي شيء». ويبدو أن اضطرار هذه الأم إلى زيارة غرفة الطوارئ في وقت متأخر من الليل بسبب تعرّض ماثيو مع بلوغه 22 شهرًا من العمر إلى الاختناق أعاد إليها الذكريات الرهيبة. وعلى مرّ الشهور الستة اللاحقة، ظلّت كلافانس تستيقظ في منتصف الليل بسبب متلازمة فرط التهوية Hyperventilation وتصاب بالقلق المرضي عندما تكون وحدها مع طفليها. بعد هذه الأعراض المخيفة، ألمح طبيب الأطفال الذي يعاين طفليها إلى أنها قد تكون مصابة باضطراب ما بعد الصدمة، فبدأت بالخضوع للعلاج اللازم.
أبعاد القلق المفرط
لا شك في أن خوف الوالدين وهواجسهما فيما يتعلق بطفلهما يؤثران في طريقة تعاملهما معه. فبحسب د. كوكوتوس، يعمد الوالدان إما إلى الإسراف في تدليل طفلهما، أو إلى المبالغة في محاولة حمايته من ألم محتمل (من الناحيتين الجسدية والعاطفية) أو حتى تجنّب تأديبه. والواقع هو أن هذه التصرّفات قد تؤدي إلى إصابة الطفل باضطرابات سلوكية، بما في ذلك توتر الانفصال الذي يستمر إلى ما بعد سن الخامسة، والميل إلى المعارضة، ونوبات الغضب المتكررة، وفرط النشاط، وكذلك التوهم المرضي. وتُعرف هذه الحالة باسم متلازمة الطفل الضعيف (VCS)، علمًا بأن هذا المصطلح صيغ عام 1964، عندما اكتشف الباحثون أن عددًا من الأطفال الذين يعانون مشاكل سلوكية وصعوبة في التعلم يتشاركون ميزة واحدة، ألا وهي إصابتهم في وقت مبكّر من حياتهم بمرض خطير أو حادث مهدد للحياة. وعلى الرغم من أن الأطفال تعافوا تمامًا، إلا أن أولياء أمورهم استمروا بالتعامل معهم بقفازات من حرير.
فالدكتورة كوكوتوس تقول: «في الكثير من الأحيان، تجلب الأم طفلها إلى الطبيب أو إلى الطوارئ لأعراض بسيطة، أو لإجراء فحوص لا حاجة فعلية إليها». ولأن هؤلاء الأهالي يفترضون أن أي ضغط على أطفالهم يمكن أن يضرّهم، فإنهم يميلون إلى اعتماد طرق تأديب غير فاعلة. فالأم قد تستسلم بسرعة كبيرة عندما يبكي طفلها أو يغضب. وبعض الأمهات يلمن أنفسهن على ولادة أطفالهن قبل الأوان، أو على إصابتهم بأي مشاكل صحية، فيحاولن التعويض عن ذلك بطريقة ما، مثل التدليل المفرط أو ندرة فرض القواعد. وفي هذا السياق، تقول د. لانغكامب: «إذا كنت تخضعين دومًا لإرادة طفلك أو لا تضعين حدودًا واضحة لسلوكياته، فإنه سيميل إلى اكتساب سلوكيات تخريبية». فطفلك سيشعر بأنه يستطيع التملّص من تبعات سلوكه السيئ، فيعمد غريزيًا إلى الاستفادة من ذلك. ومن ثمَّ، فإن هذا الحذر المفرط تجاه الطفل قد يؤدي في نهاية المطاف إلى نتائج لا تصبّ في مصلحته. فبحسب د. رحيل بريغز Rahil Briggs، الاختصاصية في علم النفس والبروفيسور المساعد في مادة طب الأطفال في كلية ألبرت أينشتاين للطب في نيويورك، «عندما يواجه الطفل مخاوف وتحديات من مثل لقائه أشخاصًا جددًا، أو الالتحاق بالمدرسة للمرة الأولى، سيبدأ في تنمية مهارات التأقلم مع الظروف. ولكن إذا لم نعطه فرصة للتعامل مع التوتر العادي، المشجع على النمو، فسوف يكون أقل قدرة على تحمل الإحباط ولن يتمتع بالثقة الضرورية لمواجهة أيّ موقف».
فضلاً عن ذلك، قد يتبنّى الطفل مخاوف والديه من الجراثيم والمرض ويبدأ في رؤية نفسه ضعيفًا أو قابلاً للإصابة. فالدكتور جيفري إل. براون Jeffrey L. Brown، أستاذ مادة طب الأطفال في كلية نيويورك الطبية يقول: «يمكن للأم القلقة أن تنقل إلى طفلها عن غير قصد رسالة مفادها أن كل تجربة هي كارثة محتملة».