الحج المبرور

على الحاج أن يقصد بحجه التقرب إلى الله، وهجر الدنيا وشواغلها، متضرعًا إلى ربه أن يتجاوز عنه ويعتقه من النار.

بقلم: أ.د.عبدالكريم بن صنيتان العمري
الجامعة الإسلامية

خلق الله تعالى النفوس لعبادته، فإذا عَرَفَت ذلك اجتهدت في أداء ما خُلقت له، وواظبت عليه، واستزادت منه، وارتاحت لعمله، ومن طبيعة هذه النفس الفتور والملل، والخمول والكسل، والشيطان يعمل جاهدًا لتثبيطها، ويحرص على غوايتها وتضليلها، فربما ضعفت عن أداء الواجبات، وفترت عن القيام بأعمال الطاعات. والله تعالى لطيف بعباده، ورحيم بهم، يشرع لهم من العبادات ما يقوّي عزائمهم، ومن المواسم ما يُنشّط نفوسهم، ويشحذ عزائمهم وهممهم، فجعل لهم مواسم للعبادة وفضّلها، وخصّ بعض البلاد والأمكنة بفضائل ومزايا، فاختارَ من بقاع الأرض مكة، والمدينة، وجعل لهما خصائص امتازتا بها عن غيرهما من الأماكن. ومن أعظم الخصائص التي انفردت بها مكة عما سواها، أن جعل الله تعالى فيها الكعبة مهوى أفئدة المسلمين، وقِبلة المصلين، وفرضَ على عباده إحياء البيت الحرام بالحج، يجتمعون كلَّ عام في مكة والمشاعر، لأداء هذه الفريضة. وليس الحج من الشعائر الخاصة بهذه الأمة، بل يرجع تاريخ الحج إلى عهد نبي الله وخليله إبراهيم، عليه السلام، فهو أول من بنى البيت على التحقيق، وأول من طاف به مع ولده إسماعيل، عليهما السلام، وهما اللذان سألا ربهما أن يريهما أعمال الحج ومناسكه، قال تعالى: }وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ{.(البقرة: 128-127). والحج إلى بيت الله الحرام, أحد أركان الإسلام, ومبانيه العظام, وقد فرضه الله، تعالى، على المستطيع, }وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا{ (آل عمران: 97). وخاطب الله، تعالى، خليله إبراهيم عليه السلام: }وأَذِّنْ في النَّاسِ بالحَجِّ يأتوكَ رجالًا وعلى كلِّ ضَامِرٍ يأتينَ مِن كلِّ فَجٍّ عميقٍ ليَشْهَدوا منافعَ لهمْ...{. (الحج: 28-27). روى الطبري بإسناده عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: لما فَرَغَ إبراهيمُ من بناء البيت العتيق، قيل له: أَذِّنْ في الناس بالحج، قال: ربّ وما يبلغُ صوتي؟ قال: أَذِّنْ وعليَّ البلاغ، فقامَ إبراهيمُ خليل الله على الحجر، فنادى: يا أيها الناس، كُتِبَ عليكم الحج، فحجوا، فأسْمَعَ مَن في أصلاب الرجال، وأرحامِ النساء، فأجابَه من آمن، ممن سَبَقَ في علمِ اللهِ أن يحجَّ إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: سُئِلَ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أي العمل أفضل؟ قال: (إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهادُ في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حجٌ مبرور). وقال عليه الصلاة والسلام: (العمرةُ إلى العمرة كفارةٌ لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) متفق عليه. ومعنى قوله: (ليس له جزاءٌ إلا الجنة) أي: لا يقتصر فيه على تكفير بعض الذنوب، بل يبلغُ به إلى الجنة. والحج المبرور هو الذي لا يخالطه إثم، وقيل: المتَقَبَّل، وقيل: الذي لا رياء فيه ولا سمعة، ولا رفث ولا فسوق. وقال بعضهم: هو الذي لا معصية بعده. قال الحسن البصري رحمه الله: الحج المبرور: أن ترجع زاهدًا في الدنيا، راغبًا في الآخرة.
ومن معاني البر فعل الطاعات كلها, وقد فسّر الله تعالى البر بذلك في قوله: }وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ{ (البقرة 177).

فأنواع البر ستة
من استكملها فقد استكمل البر:
أولها: الإيمان بأصول الإيمان الخمسة، وثانيها: إيتاء المال المحبوب لذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، وثالثها: إقام الصلاة، و رابعها: إيتاء الزكاة، وخامسها: الوفاء بالعهد، وسادسها: الصبر على البأساء والضراء وحين البأس، وكلها يحتاج الحاج إليها، فإنه لا يصح حجه دون الإيمان، و لا يكمل حجه ويكون مبرورًا دون إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فإن أركان الإسلام بعضها مرتبطة ببعض، فلا يكمل الإيمان والإسلام حتى يؤتي بها كلها ولا يكمل بر الحج دون الوفاء بالعهود في المعاقدات والمشاركات المحتاج إليها في سفر الحج وإيتاء المال المحبوب لمن يحب الله إيتاءه، ويحتاج مع ذلك إلى الصبر على ما يصيبه من المشاق في السفر، فهذه خصال البر. وقال أبو الشعثاء: نظرت في أعمال البر، فإذا الصلاة تَجْهَدُ البدنَ، والصوم كذلك، والصدقة تجهدُ المال، والحج يَجهدُهما، فرأيته أفضلَ العبادات. وروى أبو هريرة، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: (من حجّ لله فلم يرفُث ولم يفسُق رَجَعَ كيوم ولدته أمه) متفق عليه. ومغفرةُ الذنوب بالحج، ودخولُ الجنة به، مُرَتَّبٌ على كون الحج مبرورًا. قال الحافظ ابن رجب، رحمه الله: وإنما يكون مبرورًا باجتماع أمرين فيه: الأول: الإتيانُ بأعمال البر، وذلك يشمل الإحسان إلى الناس، وقد روُي عنه عليه الصلاة والسلام أنه سئل: ما برُّ الحج يا رسول الله؟ قال: «إطعامُ الطعام وإفشاءُ السلام». رواه أحمد. كما يشمل فعل الطاعات كلها، من ذكر الله تعالى، والتلبية، والدعاء، وإراقة دماء الهدي، ونحو ذلك. الثاني: ما يكمل به برُّ الحج: اجتناب فعل الآثام من الرفث والفسوق والجدال والمعاصي، قال الله تعالى: }فلا رَفَثَ ولا فُسُوقَ ولا جِدالَ في الـحـَجِّ{.(البقرة: 197). والرفث: هو الجماع. كما قاله ابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم. وقال بعضهم: هو اسم لكل لهو، وخَنًى وفجورٍ، وزور ومُجون. والفسوقُ: هو المعاصي. وأما الجدال: فهو المِرَاءُ والملاحاةُ حتى تُغضبَ صاحبَك وأخاك. قاله ابن عباس، وقال ابن عمر: هو السباب والمنازعة القبيحة.
ومما وَرَدَ في فضل الحج وعظيم أجرِه، ما رواه عمرو بن العاص، رضي الله عنه، قال: لما جعل الله الإسلام في قلبي، أتيتُ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقلت: أبسُط يدَك لأبايعَك، قال: فبسط يمينه فقبضتُ يدي، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (مالك يا عمرو؟), قال: فقلت: أشترط، قال: (تشترط ماذا؟), قلت: أن يُغفر لي، فقال عليه الصلاة والسلام:(يا عمرو: أما علمتَ أن الإسلام يهدم ما قبله، وأنّ الهجرة تهدم ما قبلها، وأن الحجّ يهدم ما قبله) رواه مسلم. وروى ابن مسعود، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، (تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة) رواه أحمد والترمذي. والأحاديث الواردة في فضل الحج وثوابه كثيرة، وهي تبشّر كل من حج، والتزم بآداب الحج، وأتى به على الوجه الأكمل، تبشّره بالخير العظيم، والأجر الكريم، والثواب العميم، فالحاج عند قصد مكة للحج، هَجَرَ الدنيا وشواغلها، وتركها وراء ظهره ونسيها، واتجه إلى ربه يطلبُ عفوَه ومغفرته، ووقفَ في المشاعر متضرعًا إلى الله تعالى أن يتجاوزَ عنه، ويعتقَه من النار، فاستجاب له. على الحاج أن يقصد بحجه وعمرته الأجر والثوابَ من الله تعالى، والتقربَ إليه بما يرضيه من الأقوال والأفعال، وليحذرْ من الرياء والسمعة والمفاخرة، فإن ذلك من أقبح المقاصد، ومن أعظم ما يحبط العمل، ويؤدي إلى رَدِّه. قال تعالى: }مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ{.(هود:16-15). فالإخلاص شرط في جميع العبادات، فمن أتى بعبادة، والباعث عليها غرضٌ دنيوي بحيث لو فُقِدَ لتركها فليست بعبادة، وإنما هي معصية موبقة لصاحبها. وهو عند خروجه للحج، إنما يؤدي شكرَ نعمة الله تعالى عليه، حيث أفاضَ عليه من المال، ومتّعه بنعمة الصحة والعافية، وهما من أعظم آلاء الله تعالى، التي يتمتعُ بها الإنسان في هذه الدنيا، ففي الحج شكرٌ لهاتين النعمتين العظيمتين، فهو يجهد نفسه، وينفق أمواله في سبيل الله تعالى، ويتقرب إليه، فعندما عرف الله تعالى منه حسن النيّة، وسلامة المقصد، وصدق اللهجة، وصحة العبادة، كافأه على ذلك بالمغفرة والتجاوز عن الذنوب، واستجاب دعاءه، وأعانه حتى أدَّى مناسك حجه. اللهم يسّر لحجاج بيتك الحرام حجهم، واجعل حجهم مبرورًا، وعملهم مقبولاً، وسعيهم مشكورًا، وذنبهم مغفورًا، وأعدهم إلى بلادهم سالمين غانمين، برحمتك يا أرحم الراحمين, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.