خيرُ الدّين الزِرِكليّ

رائدُ المؤرّخين المحدثين

على مرّ السنين والأعوام، وتوالي الليالي والأيام، برزت في تاريخ الإنسانية شخصياتٌ عديدة, كان لها أثرٌ واضح، أو شهرةٌ واسعة، أو عملٌ بارز، أو مكانةٌ سياسية، أو وجاهةٌ اجتماعيةٌ، أو منزلةٌ علمية أو نحو ذلك. ولم تكن لتلك الشخصيات المؤثرة أن تعرفها الأجيال المتلاحقة، ولا أن تتداول أسماءَها الألسنُ والأقلام المتتابعة، إلا حين قيّض الله تعالى لها من يدوّن أعمالها، ويسجّل في صفحات التاريخ أمجادَها ونَتَاجَها، ويُقَدِّم للقراء بطولاتِها وأفكارَها، فأصبحت محفوظةً تسير بذكر أخبارها الركبانُ جيلاً بعد جيل، وسنةً بعد أخرى.
من أشهر أولئك المؤرخين الذين قدّموا للقارئ موسوعة علمية ضخمة في أسماء المشاهير وسِيَرِ حياتهم، المؤرخ والأديب الشهير خير الدين الزركلي، الذي يعد واحدًا من أشهر المؤرخين في العصر الحديث.
يقول عن نفسه: خير الدين بن محمود بن محمد بن علي بن فارس، الزِّرِكليّ الدمشقي، ولدت ليلة 9 من ذي الحجة 1310هـ (25 يونيه 1893م) في بيروت، وكانت لوالدي تجارة فيها، وهو وأمي دمشقيان، ونشأت بدمشق، فتعلمت في إحدى مدارسها الأهلية, وأخذت عن علمائها، على الطريقة القديمة, وأولعت بكتب الأدب، وقلت الأبيات من الشعر، في صباي.
بدأ الزركلي حياته مولعًا بالرحلات العلمية، فتنقّل بين العديد من الدول والبلدان، وبرزت شخصيته التي حوت العديد من المواهب، فقد كان مؤرخًا بارعًا, ولغويًا وأديبًا، وشاعرًا، ومفكرًا، يظهر ذلك من نتاجه العلمي والفكري، ومؤلفاته المتنوعة التي تزخر بها المكتبات العلمية. وقد أفاد فائدة كبيرة من رحلاته وتنقلاته، حيث اطّلع على الكثير من الكتب ونفائس المخطوطات، ونوادر التراث في الخزائن العلمية المنتشرة في العديد من الدول التي زارها.
يعد كتابه «الأعلام» أكبر موسوعة تاريخية، حوت تراجم مختصرة دقيقة لمشاهير الشخصيات المتنوعة على مرّ التاريخ، استخلصه من كتب التراجم والتاريخ المتقدمة. وقد بدأ في تأليفه قبل بلوغه العشرين من عمره، واشتمل على تراجم لشخصيات في الجاهلية والإسلام، وآخر من ترجم لهم فيه، وفيات عام 1396هـ. وأورد إلى جانب الترجمة نماذج من خطوط المترجم لهم من المتقدمين، وصورًا للمتأخرين. وذكر في مقدمة كتابه منهجه الذي سار عليه في الترجمة، فقال: وجعلت ميزان الاختيار أن يكون لصاحب الترجمة عِلمٌ تشهد به تصانيفه، أو خلافةٌ أو ملكٌ أو إمارة، أو منصب رفيع- كوزارة أو قضاء- كان له فيه أثر بارز، أو رياسة مذهب، أو فن تميز به، أو أثرٌ في العمران يذكر له، أو شعر، أو مكانة يتردد بها اسمه، أو رواية كثيرة، أو أن يكون أصل نسب، أو مضرب مثل.. وضابط ذلك كله: أن يكون ممن يتردد ذكرهم ويُسأل عنهم.
ولقي هذا الكتاب قبولاً واسعًا لدى القراء والباحثين والمثقفين، وبخاصة المعنيون بالبحث العلمي والرسائل الجامعية، حيث اختصر لهم الطريق، وقدّم مفاتيح مهمةً للشخصية العلمية التي يبحثون عنها.
من مؤلفات الزِرِكليّ المهمّة المطبوعة المتداولة، كتابه الذي ألّفه عن تاريخ المملكة العربية السعودية وعنوانه «شبهُ الجزيرةِ في عهد الملك عبدالعزيز» في مجلدين، ويعدّ مصدرًا رئيسًا موثوقًا للأحداث والوقائع التاريخية لفترة تأسيس المملكة وما بعد التأسيس، صاغه بأسلوب عصريٍّ, وتحليلٍ علميٍّ للأحداث. قال في مقدمته: «وفي سيرة الملك عبدالعزيز في نصف قرن مضى، سيرة (أمَّة) تحولت من الركود إلى النشاط، ومن الفتنة إلى الأُلفة، ومن نزعات العصبية الجاهلية والفوضى، إلى الإيمان والنظام، ومن الفاقة إلى اليُسر، ومن الاستغراق في السُّبات إلى الأخذ بأسباب الحياة».
يعدّ الزِرِكليّ من الشعراء النابغين، والأدباء المميزين، وله ديوان شعرٍ مطبوع، حوى قصائده كلَّها، ومن روائع شعره قصيدته التي أظهر فيها حنينه إلى الوطن، ومشاعره الجيَّاشة تجاهه، ومنها قوله:

من مؤلفات الزِرِكليّ المطبوعة، ديوان شِعره، ما رأيت وما سمعت، عامان في عمَّان، الوجيز في سيرة الملك عبدالعزيز. توفي، رحمه الله، في القاهرة في 3/12/1396هـ، الموافق 25/11/1976م.