مايكل بورتر
أستاذ في كلية هارفارد للأعمال، ورئيس المجلس الاستشاري لمبادرة التقدم الاجتماعي
انتشل النمو الاقتصادي مئات الملايين من البشر من براثن الفقر، وعمل على تحسين حياة كثيرين على مدى نصف القرن الماضي. رغم ذلك، فإنه يتضح على نحو متزايد أن نموذجًا للتنمية البشرية يقوم على التقدم الاقتصادي وحده يعد منقوصًا. إن المجتمع الذي يفشل في تلبية الاحتياجات الإنسانية الأساسية، وإعداد المواطنين لتحسين نوعية حياتهم، وحماية البيئة، وتقديم الفرصة للعديد من مواطنيه، يعد مجتمعًا غير ناجح. ذلك أن النمو الشامل يتطلب تحقيق التقدم الاقتصادي والتقدم الاجتماعي جنبًا إلى جنب.
تتضح المآزق المترتبة على التركيز على الناتج المحلي الإجمالي وحده في النتائج التي توصل إليها مؤشر التقدم الاجتماعي لعام 2015، الذي أطلق في التاسع من أبريل نيسان. إن هذا المؤشر، الذي أطلق بالتعاون بين كلية سكوت شتيرن في معهد ماساتشوستس للتقنية ومبادرة التقدم الاجتماعي غير الربحية، يقيس أداء 133 دولة فيما يتصل بمختلف أبعاد الأداء الاجتماعي والبيئي. وهو الإطار الأكثر شمولاً لقياس التقدم الاجتماعي، والأول لقياس التقدم الاجتماعي بشكل مستقل عن الناتج المحلي الإجمالي.
واستنادًا إلى 52 مؤشرًا للأداء الاجتماعي في أي بلد، يتيح مؤشر التقدم الاجتماعي أداة عملية لرجال الحكم والأعمال لقياس أداء البلاد وترتيب الأولويات في المجالات التي تشتد الحاجة فيها إلى تحسين الأوضاع الاجتماعية. على هذا يوفر مؤشر التقدم الاجتماعي أساسًا منهجيًا تجريبيًا لتوجيه استراتيجية النمو الشامل.
ليس مفاجئًا أن تكشف البيانات عن كون جوانب كثيرة من التقدم الاجتماعي تميل إلى التحسن مع نمو الدخل. فالبلدان الأكثر ثراء، مثل النرويج (التي تحتل صدارة مؤشر التقدم الاجتماعي هذا العام)، تحقق في العموم نتائج اجتماعية أفضل من البلدان الأقل دخلاً.
لكن الاكتشاف المدهش يكمن في أن الناتج المحلي الإجمالي بعيد تمامًا عن كونه المحدد الوحيد للتقدم الاجتماعي. فقد حققت كوستاريكا، على سبيل المثال، مستوى من التقدم الاجتماعي أعلى من إيطاليا، مع كون نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي لا يكاد يبلغ ثلث نصيب الإيطالي.
ليست كوستاريكا حالة منعزلة. فعبر طيف البلدان المختلفة، من الغنية إلى الفقيرة، نرى أمثلة، مثل نيوزيلندا والسنغال، أكثر نجاحًا في ترجمة النمو الاقتصادي إلى تقدم اجتماعي مقارنة ببلدان غيرها، مثل الولايات المتحدة ونيجيريا. ثم إن كثيرًا من الاقتصادات الناشئة سريعة النمو، بما في ذلك الصين والهند، لمَّا تتمكن بعد من تحقيق مستوى من التقدم الاجتماعي يتيحه تقدمهما الاقتصادي.
حيثما وُجِد الاختلال بين النمو الاقتصادي والتقدم الاجتماعي، تنشأ عادة حالة من عدم الاستقرار والاضطراب السياسيين. ويعمل تأخر التقدم الاجتماعي، أيضًا، على عرقلة النمو الاقتصادي في البلدان التي تفشل في تلبية الاحتياجات الإنسانية، وبناء رأس المال الاجتماعي، وخلق الفرص لمواطنيها. وإنه لينبغي للدول أن تستثمر في التقدم الاجتماعي، لا في المؤسسات الاقتصادية فحسب، من أجل خلق الأساس السليم للنمو الاقتصادي.
لقد رأيت، في تجربتي الشخصية، كيف جعلت رواندا الاستثمار في التقدم الاجتماعي- من حيث المساواة بين الجنسين، وانخفاض معدل الوفاة بين الأطفال بنسبة %61 في غضون عشر سنوات فقط، ورفع معدل الالتحاق بالمدارس الابتدائية إلى %95 - كيف جعلته جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية التنمية الاقتصادية. وما كان الأداء الاقتصادي الإيجابي في رواندا ليصبح ممكنًا دون تحسن في هذه الأبعاد وغيرها من أبعاد التقدم الاجتماعي.
إن التركيز على التقدم الاجتماعي على هذا النحو يؤدي إلى استراتيجيات تنموية أفضل، ويبني الدعم السياسي للخطوات المثيرة للجدال والضرورية أحيانًا لزيادة الرخاء. ويشكل القياس الدقيق للأداء الاجتماعي، جنبًا إلى جنب مع المؤشرات الاقتصادية التقليدية، أهمية بالغة لدفع الدورة الحميدة التي يحسِّن فيها نمو الناتج المحلي الإجمالي من الأداء الاجتماعي والبيئي على النحو الذي يدفع إلى مزيد من النجاح الاقتصادي. ومن طريق اجتناب المناقشات الضيقة، من مثل الناتج المحلي الإجمالي مقابل التفاوت في الدخل، يوفر مؤشر التقدم الاجتماعي أداة جوهرية لصياغة أجندة ملائمة تحقق هذا الغرض تمامًا.
لقد تزايد الاهتمام بمؤشر التقدم الاجتماعي على نحو كبير منذ إصدار النسخة الأولية منه في عام 2013. ويتقاسم النتائج الملايين من المواطنين حول العالم، جاعلين من هذا المؤشر أداة لمساءلة قادتهم.
علاوة على ذلك، يجري الآن تنفيذ مبادرات استراتيجية لدفع التحسن في التقدم الاجتماعي في أكثر من أربعين دولة. فقد تبنت باراجواي، على سبيل المثال، مؤشر التقدم الاجتماعي لتوجيه خطة تنموية وطنية شاملة لعام 2030. ويستخدم مؤشر التقدم الاجتماعي ليس فقط على المستوى الوطني، بل تستخدمه، أيضًا، السلطات الإقليمية والبلدية. ولقد بدأت ولايات مثل بارا في البرازيل، إلى جانب مدن مثل بوجوتا وريو دي جانيرو في أميركا اللاتينية، وسامرفيل في ولاية ماساتشوستس في الولايات المتحدة، في استخدام مؤشر التقدم الاجتماعي مقياسًا لنجاح التنمية.
وهذا العام، تعتزم المفوضية الأوروبية نشر مؤشرات التقدم الاجتماعي الإقليمية في أوروبا. وتستخدم شركات مثل كوكاكولا وناتورا مؤشر التقدم الاجتماعي لإرشاد استراتيجيات تلك الشركات في الاستثمار الاجتماعي وبناء علاقات تعاونية مع شركاء من القطاعين العام والخاص.
لقد كان الناتج المحلي الإجمالي مؤشرًا مرجعيًا لتوجيه التنمية الاقتصادية لأكثر من نصف قرن من الزمان. ويهدف مؤشر التقدم الاجتماعي إلى أن يكون متممًا للناتج المحلي الإجمالي لا أن يحل محله مقياسًا أساسيًا للأداء الوطني. ويوفر قياس التقدم الاجتماعي للمواطنين والقادة صورة أكثر اكتمالاً عن تطور بلدهم. وهذا من شأنه أن يساعد المجتمعات على التوصل إلى اختيارات أفضل، وخلق مجتمعات أكثر قوة، وتمكين الناس من الاستمتاع بحياة أكثر إشباعًا.