المؤمنُ لا يكذبُ

بقلم: محمد سعيد المولوي
رسومات: George Pontino, Jr

بعضُ الناسِ يظنُّ أنه بالكذبِ يحققُ ما يريدُ، أو يتخلصُ مما لا يريدُ. وقد جاءت الأديانُ بتحريمِ الكذبِ، ورفضتُه القواعدُ الأخلاقيةُ، وصارَ من المسلَّمِ به والذي لا يحتاجُ إلى نقاشٍ أن الكذبً نقيصةٌ يجبُ على الإنسانِ أن يبتعدَ عنها. وإذا أرادَ إنسانٌ أن يحقرَ آخرَ نعتَه بأنه كذابٌ، وتلك تهمةٌ تدعو إلى الخجلِ والانتقاصِ.
ومن الطرائفِ الواقعيةِ أن رجلاً فاضلاً اشترى سيارةً لتنقلاتِه وعملِه، وكان يركنُ السيارةَ أمامَ بابِ جارِه مساءً. وفي الصّباحِ يركبُها ويمضي إلى عملِه. وكان للرجل فتى في مقتبلِ العمرِ وكان يحبُّ قيادةَ السيارةِ. فكان ينتظرُ حتى ينامَ أبوه، ثم يأخذُ مفاتيحَ السيارةِ ويمضي بها مع رفاقِه في الشوارعِ حتى إذا قاربَ الفجرُ السطوعَ رجعَ بها إلى البيتِ ووضعَها على ما كانت عليه. ولم يكن الأبُ يعلمُ أن ابنَه يأخذُ السيارةَ من غيرِ علمِه، ولكنه كان شاكًا في ذلك.
وفي إحدى الليالي قدمَ الأبُ بسيارتِه إلى البيتِ وركنَها أمامَه. وبعد حينٍ جاءَ ولدُه مع أصحابِه يريدون السهرَ معًا. وحين أبصروا السيارةَ قال أحدُهم للفتى: ما رأيُك يا رياضٌ أن نأخذَ سيارةَ أبيك ونطوفُ بها في البلدِ نروِّحُ عن أنفسِنا؟ قال رياضٌ: أخشى أن يكتشفَ أبي أني أخذتُ السيارةَ، وسيغضبُ غضبًا شديدًا، ولا سيما أنني لا أحملُ رخصةَ قيادةٍ. وإذا ما ضبطتنا الشرطةُ فإنهم يحجزون السيارةَ ويعتقلوننا. قال رفيق آخر: الدنيا ليلٌ، ولا توجد شرطةٌ. فإنهم الآن في بيوتِهم نائمون، ولن نتأخرَ فسنطوفُ قليلاً ثم نعودُ إلى بيتِك ونصنعُ شايًا ونكملُ سهرتَنا.
وطافَ الرفاقُ بالسيارةِ وعادوا إلى بيتِ رياضٍ، وركنوا السيارةَ أمامَ البابِ، ودخلوا بهدوءٍ إلى غرفةِ الزوَّارِ وشربوا الشايَ، ثم هَمَّوا بالانصرافِ وخرجوا من بيت صديقهم. وطلبوا منه أن يوصل كل واحد منهم إلى بيته لتعذرِ وجودِ سيارةٍ أجرةٍ. قال رياضٌ: على الرحبِ والسعةِ.
وخرجَ الجميعُ لركوبِ السيارةِ، وما إن وصلوا إليها حتى صاحَ أحدُهم: يا الله ما هذا؟! هرعَ الجميعُ ليروا ماذا هناك، فإذا مقدمةُ السيارةِ مهشمةٌ في أكثرَ من موطن. وذُهِلَ رياضٌ مما رأى وقال: يا ويلتى ماذا سأقولُ لأبي؟ قال صديقُه: إن الندبَ والبكاءَ لا يفيدان، وخيرٌ لنا أن نتداركَ الأمرَ، وأن نسرعَ في إصلاحِ السيارةِ قبلَ أن يحلَّ الصباحُ. تقاسمَ الجميعُ المهامَ: فواحدٌ يذهبُ إلى الحدادِ، وآخرُ ذهب إلى بيتِ بائعِ قطعِ تبديلِ السيارةِ لكنه لم يجده، فذهب إلى الآخرِ ووجدَه نائمًا فأيقظه من نومه ومضى به إلى دكانِه، فأخذَ منه القطعَ اللازمةَ بديلاً لما تحطمَ من القطعِ. وآخرُ ذهبَ إلى الدهانِ فوجدَه قد أغلقَ دكانَه فمضى إلى بيتهِ وطلب منه أن يحضرَ ويدهنَ السيارةَ.
وقامت ورشةٌ لإصلاحِ السيارةِ.. فهذا يضربُ بالمطرقةِ، وذاك يدهنُ أطرافَ السيارةِ بالمعجونِ، وآخرُ يدهنُ بالدهانِ، وثالثٌ يغيرُ القطعَ التالفةَ بأخرى سليمةٍ.. وهكذا لم تشرقِ الشَّمسُ إلا وكانت السيارةُ كأنها خارجةٌ من الوكالةِ. وتفرقَ الجميعُ وبقي رياضٌ إلى جانبِ السيارةِ متظاهرًا بتنظيفِها. وحين خرجَ أبوه من البيتِ نظرَ إلى السيارةِ فرآها نظيفةً تلمعُ، وطافَ حولَ السيارةِ وتوقفَ أمامَ ولدِه وقالَ له: هل أخذتَ السيارةَ في الليلِ؟ فتلعثمَ ثم قال: لا. فرد عليه أبوه بحزمٍ أنت كذابٌ. البارحةَ صدمتني سيارةٌ من الخلفِ فصدمت ما أمامها من سيارةٍ فتهشمت مقدمةُ سيارتِنا، وجئتُ بالسيارةِ إلى البيتِ وتركتُها أمامَ البابِ على أملِ إصلاحِها اليومَ. اليومَ وجدتُ السيارةَ سليمةً ليس بها أي خطبٍ أو كسرٍ. معنى هذا أن هناك مَنْ أصلحَ السيارةَ في الليلِ. ولما كان لا أحدَ له مصلحةٌ في إصلاحِها سواك، فمن غيرُك أصلحها؟ أنت تقول إنك لم تأخذِ السَّيارةَ، لكن من الواضحِ والمعقولِ أنك أخذت السيارةَ، وحين عدتَ بها اضطررتَ إلى إصلاحِها. لذلك قلت لك إنك كذابٌ، مع أني أوصيتُك سابقًا بألا تكذبَ فحبلُ الكذبِ قصيرٌ.
قال رياضٌ: لقد صدقتَ يا والدِي. وأنا آسفٌ على ما صنعتُ. وأسفي أكثر لأني كذبتُ. قال الأبُ: تذكرْ يا بُنَيَّ دائمًا قولَ الرسولِ عليه الصلاةُ والسلامُ: «المؤمنُ لا يكذبُ».