أسماءُ بنت أبي بكر.. ذاتُ النِّطــَـاقَين
اشتهر عنها تعليمها نساء الأنصار القراءة والكتابة، وكانت تعالجهن, وتحسن إلى المحتاجين.
أ.د. عبدالكريم بن صنيتان العمري
الجامعة الإسلامية - المدينة المنورةفي تاريخ الأمة الإسلامية شخصيات فريدة، ضربت أروع الأمثلة، ورسمت لوحاتٍ مشرقة، ونقشت صورًا خالدة، وكَتبت أسماءها بمدادٍ من ذهب، إيمانًا بالله، وثباتًا على الحقّ، ونُصرةً للإسلام، وفداءً وتضحيةً لإعزاز هذا الدين، من خلال الأدوار البطولية التي قاموا بها في حياتهم، فرحلوا عن الدنيا، وبقيت أفعالهم شاهدًا على مآثرهم، تتناقلها الأجيال، وتتربى على تلك السلوكيات الناصعة، وتستقي منهج حياتها من أخلاقياتها المفيدة والنافعة.
من تلك النماذج المضيئة، التي برزت في بدايات الدعوة الإسلامية، الصحابية الجليلة، راجحة العقل، سديدة الرأي، حادّة الذكاء: أسماء بنت أبي بكرٍ الصدّيق، رضي الله عنهما، التي حفظ التاريخ لها مواقف متعددة، وتضحياتٍ عظيمةٍ نادرة، حافلة بالدروس والعبر, تكشف عن امرأةٍ جمعت المجدَ من كلّ أطرافه، ملكت مواهب استغلتها في الإسهام الفاعل، والمشاركة المؤثّرة في نصرة هذا الدّين.
جمعت أسماء، رضي الله عنها، المجدَ من جميع أطرافه، فوالدها أبو بكرٍ الصدّيق،أفضل الأمّةِ بعد نبينا، صلى الله عليه وسلم، وجدُّها من أجلاء الصحابة، وأختها أمّ المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، وأخوها عبدالله بن أبي بكر الصحابي الجليل، رضي الله عنه. وهي أكبر من عائشة بعشر سنين، وزوحها الزبير بن العوام، رضي الله عنه، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وابنها أول مولودٍ للمهاجرين في المدينة بعد الهجرة عبدالله بن الزبير، رضي الله عنهما.
وُلِدَت أسماء، رضي الله عنها، في مكة المكرمة قبل الهجرة بسبعٍ وعشرين سنة، وكانت الثامنة عشرة من السابقين إلى الإسلام، وعاشت مراحل الدعوة الإسلامية في مكة من بدايتها لمكانة أبيها من النبي، صلى الله عليه وسلم. فقد كانت قريبة منهما، تعرف شؤونهما، وتتابع الأحوال بدقة، وتحفظ ما تراه، وحكّمت عقلها، واستغلّت فطنتها في ترتيب سرَّ الهجرة وكتمانه من أوله. فلما عزم النبي، صلى الله عليه وسلم، على الهجرة، ومعه صاحبه صدّيق هذه الأمّة، واتجها إلى غار ثور مختبئان فيه عن أنظار قريش، كانت أسماءُ تقوم بمهمة التموين الغذائي لهما على أكمل وجه، فكانت تخرج من مكة وتقطع الطريق بين الجبال والشّعاب والأماكن الموحشة، محتسبة مشقة الذهاب والعودة، محتملة ما قد تتعرّض له من المخاطر، وتمونهما بما يحتاجان إليه من الطعام والشراب طيلة مكثهما في الغار دون أن يشعر أحد بذلك. وقد تعرّضت للأذى خلال قيامها بتلك المهمة، حيث جاء إلى بيتها أبو جهل، فطرق الباب بعنفٍ، وسألها عن أبيها، فلم تخبره بحقيقة الأمر، وأنكرت معرفتها بمكانه، فماكان منه إلا أن صفعها على وجهها صفعةً قويةً طرح منها قرطَها، لكنها واجهته بشجاعةٍ وثقةٍ بالنفس، ورباطةِ جأشٍ قوية، وكتمانِ سرٍّ من أهم الأسرار المؤثّرة في مسيرة الدعوة الإسلامية.
ولمّــا عزم النبي، صلى الله عليه وسلم، وصاحبه أبو بكر، رضي الله عنه، على الخروج من الغار، ومغادرته باتجاه المدينة، زوّدتهما بالغذاء، وجهّزت ما يحتاجان إليه من المتاع، ولم تجد ما تربط به أمتعتهما وزادهما على الراحلة، فعَمَدَت إلى نِطَاقِها (إزار تَشُدُّ به المرأةُ وسَطَها) وشقّته نصفين، فرَبَطَت المتاع بنصفه، وانتطقت بنصفه الآخر، فسمّاها النبي، صلى الله عليه وسلم، ذات النطاقين.
وبعد استقرار النبي، صلى الله عليه وسلم، بالمدينة، هاجرت، رضي الله عنها، وكانت حاملاً بابنها عبدالله بن الزبير، فوضعته عند وصولها قباء، فكان أولَ مولودٍ للمسلمين بعد الهجرة، وذهبت به إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فحنَّكَه ودعا له.
كانت قويّة في الحق، لا تخاف في الله لومة لائم. فقد جاءتها أمّها وكانت مشركة وقدّمت لها هدايا، فامتنعت أسماءُ عن قبولها، وسَألَتْ رسولَ الله، صلى الله عليه وسلم، عن حكم قبول هدية المشرك، فنزل قول الله تعالى: }لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ{ الممتحنة (8).
اشتهر عنها تعليمها نساء الأنصار القراءة والكتابة، وكانت تعالجهن, وتحسن إلى المحتاجين، وعُرِفت بسخائها وبذلها، وجودها وكرمها، قال القاسم بن محمد: سمعت عبدَالله بن الزبير يقول: ما رأيت امرأة قط أجود من عائشة وأسماء، وجودهما مختلف: أما عائشة فكانت تجمع الشيء إلى الشيء، حتى إذا اجتمع عندها وضعته مواضعه، وأما أسماء، فكانت لا تدخر شيئًا لغد.
امتدّ العمر بأسماء بنت أبي بكر وبقيت حتى عميت، وقاربت المئة، ولم يُنكَر لها عقل، ولم تسقط لها سِنٌّ, وتوفيت بمكة المكرمة في شهر جمادى الآخرة سنة ثلاثٍ وسبعين للهجرة، بعد أن تركت لمن بعدها دروسًا تربوية، ومواقفَ رائعةً بطولية، ومكارمَ شاملةً نَديَّة، رضي الله عنها وأرضاها.