إتحاف الأكرمين في آداب الحرمين

الشيخ د. عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديسالشيخ د. عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس
الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي

الحمد لله الذي جعل الحرمين الشريفين للناس أمنًا ومثابة، وزادهما سبحانه تشريفًا وتكريمًا وتعظيمًا ومهابة، وأصلي وأسلم على عبدالله ورسوله ذي الجلالِ الحميدة والخصالِ المستطابة، وعلى آله وأصحابه أولي الصدق والإصابة، والنخوة والنجابة، والتابعين ومن تبعهم واقتفى أثرهم بإحسان واستجابة إلى يوم الدين, أما بعد.

فمما لا شك فيه أنَّ الحرمين الشريفين، حرسهما الله، هما أشرف الأماكن على الإطلاق، وأعظمها وأفضلها باتفاق. وقد رفع الله في العالمين مقدارهما، وعن سائر الأقطار شَرَّفهما واختارهما، فَغَدَت معالمهما المباركة الباهرة، مهوى أفئدة المؤمنين، ومتنزَّل النُّور المبين، ومدارج الأنبياء والملائكةِ المكرمين، ومحطّ أنظار العابدين، ومثابة القُصَّاد من الحجاج والمعتمرين، لمِا خصَّهما الباري من الفضائل، ولمِا شرَّفهما من الخصائص الجلائل، قال تعالى: }إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا...{ ( آل عمران 96-97).
ومن هذا المنطلق جاءت عناية الدولة، وفقها الله، وولاة أمرها الميامين بهذه المقدسات فأولوها جل عنايتهم وجميل رعايتهم، وجعلوا من خدمتهما ألقابًا يتوشحون بها، ولم يألوا جهدًا في بذل كل غالٍ ونفيس في خدمة الحرمين الشريفين إعمارًا، وتوسعات، ومشاريع مباركة تحاكي أحدث ما توصلت إليه العلوم والمعارف والتقانات الحديثة إعمارًا حسيًا، وإعمارًا معنويًا في العناية بنشر هدايات هذا الدين من الحرمين الشريفين وتحقيق رسالتهما العلمية والتوجيهية والإرشادية لتصل لكل قاصد لهذه البقاع المقدسة. ولا يتأتي ذلك إلا بمراعاة الآداب الشرعية لكل حاج ومعتمر وزائر للحرمين الشريفين والاهتمام بآدابهما ومنها:
• حسن المعتقد وتحقيقُ التوحيد، فحرمة البيت وتوحيد رب البيت قضيتان متلازمتان أزليتان يقول الحق سبحانه: }وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا{، وقوله سبحانه وتعالى: }وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا{، يقول العلامة السعدي: «وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا، أي: لا دعاء عبادة، ولا دعاء مسألة، فإن المساجد التي هي أعظم محال العبادة مبنية على الإخلاص لله، والخضوع لعظمته، والاستكانة لعزته».
• لزوم السُّنَّة والحذرُ من المخالفات، قال تعالى: }لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ{.
• محبة الحرمين الشريفين وتقديرهما، والعمل على تعظيمهما، وتكريمهما، وتقديسهما، وإجلالهما، واحترامهما، لقوله سبحانه وتعالى }وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ{، وقوله: }وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ{. قال ابن زيد: «الحرمات: المشعر الحرام، والبيت الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، هؤلاء الحرمات». قال العلامة السعدي: «والمراد بالشعائر: أعلام الدين الظاهرة، ومنها المناسك كلها، فتعظيم شعائر الله صادر من تقوى القلوب، فالمعظم لها يبرهن على تقواه وصحة إيمانه، لأن تعظيمها، تابع لتعظيم الله تعالى وإجلاله».

• التهيؤ للذهاب إلى الحرمين الشريفين بالطهارة وحسن الوضوء والتسوّك، ولبس الثياب النظيفة، والتجمّل والتطيّب، لقوله سبحانه: }يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ{. وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «من تطهر في بيته، ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله، كانت خطواته إحداهما تحط خطيئة، والأخرى ترفع درجة» رواه الشيخان.
• الحرص على نظافة الحرمين الشريفين وتطييبهما، لما ورد عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: «أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب» أخرجه مسلم في صحيحه.
• تجنب تلويث المسجد الحرام والمسجد النبوي بالنجاسات وغيرها من المستقذرات، والقيام على إزالتها إن وجدت، لما ورد عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة، وقراءة القرآن».
• تقديم الرجل اليمنى عند الدخول، والخروج باليسرى، لما ورد عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، أنه كان يقول: «من السنة إذا دخلت المسجد أن تبدأ برجلك اليمنى، وإذا خرجت أن تبدأ برجلك اليسرى».
• الحرص على الذكر الوارد عند دخول المسجد وعند خروجه، فقد قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك».
• وإذا دخل المسجد يستحب أداء تحية المسجد ركعتين، لحديث أبي قتادة السلمي، رضي الله عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: «إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس»، وإن تيسر له الطواف في المسجد الحرام بلا زحام ولا مشقة فحسن.
• عدم رفع الصوت في المسجد، لما ورد عن السائب بن يزيد قال كنت قائمًا في المسجد فحصبني رجل فنظرت فإذا عمر بن الخطاب فقال: اذهب فأتني بهذين. فجئته بهما قال: من أنتما أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
• الانشغال بالطاعات كحِلَق الذكر والعلم النافع، وانتظار الصلاة، والإكثار من الطواف بالكعبة في المسجد الحرام، لما ورد عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «.... وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده». ويتجلى ذلك في المسجد الحرام من باب أولى، وكذا في مسجد المصطفى، صلى الله عليه وسلم، بالمدينة النبوية المنورة.

وليس من الأدب أن يمارس العبد ما يخالف العقيدة الصحيحة في الحرمين الشريفين، كالتمسح بجدران الكعبة، أو زجاجِ المقام، أو القبر الشريف، أو حلق الأبواب قاصدين التبرك بها أو أنها تنفع من دون الله، أو يقترف بدعة، أو خرافة أو شعوذة أو خطيئة أو معصية! وبعض الناس يعمد إلى التعلق بغير الله معتقدًا أنه يجلب نفعًا أو يدفع ضررًا من دون الله. وقد قبَّل عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، الحجر الأسود وقال: «والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقبّلك ما قبلتك». إنه الاتباع والاقتداء والتأسي والاهتداء، ومجانبة البدع والأهواء.
وليس من الأدب وحسن الجوار أن تُضيَّع الصلاة ويتساهل في الطاعات، وترتكب المخالفات، أو التبرج والسفور والاختلاط المحرم وما يفعله بعضهم من تجاوز الآداب في الحرمين الشريفين، أو الانشغال بفضول الكلام، أو التصوير ونحوه مما يشغل المسلم عما من أجله أتى من إقامة الشعائر، ومراعاة قدسية المشاعر.
وقد كان العرب وهم في جاهليتهم يكرمون البيت وزوَّاره وقصَّاده: سقايةً ورعاية، ورفادة ووفادة، فأهل الإسلام أولى وأحرى. وليس الحرم مكانًا لرفع الشعارات السياسية، أو الانتماءات المذهبية والطائفية، بل يجمع المسلمين على الكتاب والسنة ويحقق وحدتهم وأخوتهم، قال تعالى: }إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ{ وقال تعالى: }إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ{.
وإن حقًا علينا جميعًا الالتزام بالآداب الإسلامية، وشكر الله سبحانه على ما حبانا من نعمة هذه البقاع المباركة، ورعاية الأدب فيها، والحفاظ على أمنها ونظامها وسلامة قاصديها. قال تعالى :}وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا{. وإن من فضل الله على الحرمين الشريفين أن هيأ لهما هذه الدولة المسلمة والحكومة الراشدة والولاية الماجدة التي تشرف بخدمة الحرمين الشريفين وتقديم الخدمات كافة لقاصديهما، جعله الله في موازين أعمالها الصالحة.
كما أن إخوانكم في الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي يرحبون أشد ترحيب بقاصدي بيت الله الحرام ومسجد رسوله، صلى الله عليه وسلم، ويسعدون أيَّما سعادة ويشرفون كل الشرف بتقديم خدماتهم لكل حاج ومعتمر وزائر بلا مِنَّة، بل يؤدون ما تمليه عليهم الأمانة والمسؤولية تجاه دينهم ووطنهم وولاة أمورهم جنبًا إلى جنب مع إخوانهم رجال الأمن بقطاعاتهم وجهاتهم كافة، ويتطلعون إلى تعاون قاصدي الحرمين الشريفين والاستجابة فيما لديهم من تعليمات تحقق أداءهم لنسكهم براحة ويسر وسهولة واطمئنان، ويدعون الله للجميع بالقبول والأجر والمثوبة، والعودة إلى ديارهم وأوطانهم سالمين غانمين.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا للتأدب بآداب الإسلام، وأن يرزقنا اتباع سنة سيد الأنام، وأن يحفظ خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وسمو ولي عهده الأمين، وسمو ولي ولي العهد، وأن يجزيهم خير الجزاء لقاء كريم عنايتهم وجميل رعايتهم للحرمين الشريفين وشؤونهما، ويحفظ على هذه البلاد عقيدتها، وقيادتها، وأمنها، وأمانها، ورخاءها، واستقرارها، وسائر بلاد المسلمين إنه جواد كريم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلِّ اللهم وسلِّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.